أطيب عطرك هذا يا ابن الأشرف! وإنما كان كعب يدهن بالمسك الفتيت بالماء والعنبر حتى يتلبد في صدغيه، وكان جعدا جميلا، ثم مشى ساعة فعاد بمثلها حتى اطمأن إليه، وسلت يداه في شعره، فأخذ بقرون رأسه وقال لأصحابه:
اقتلوا عدو اللَّه، فضربوه بأسيافهم، فالتفت عليه فلم تغن شيئا، ورد بعضها بعض ولحق بأبي نائلة.
قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولا كان في سيفي فانتزعته فوضعته في سرته ثم تحاملت عليه فقططته [ (١) ] حتى انتهى إلى عانته، فصاح عدو اللَّه صيحة ما بقي أطم من آطام يهودي إلا أوقدت عليه نار فقال: ابن سنينة- يهودي من يهود بني حارثة وبينهما ثلاثة أميال- إني لأجد ريح دم بيثرب مسفوح وقد كان أصاب بعض القوم الحارث بن أوس بسيفه وهم يضربون كعبا، فكلمه في رجله فلما فرغوا احتزوا رأسه ثم حملوه معهم، ثم خرجوا يشتدون وهم يخافون من يهود الإرصاد، حتى أخذوا على بني أمية بن زيد، ثم على بني قريظة، وإن نيرانهم في الآطام لعاليه، ثم على بعاث، حتى إذا كانوا بحرة العريض نزف الحارث فأبطأ عليهم فناداهم: أقرئوا رسول اللَّه مني السلام، فعطفوا عليه حتى أتوا النبي صلّى اللَّه عليه وسلم فلما بلغوا بقيع الغرقد كبروا، وقد قام رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم تلك الليلة يصلي، فلما سمع تكبيرهم بالبقيع كبر وعرف أنهم قد قتلوه.
ثم انتهوا يعدون حتى وجدوا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم واقفا على باب المسجد، فقال: أفلحت الوجوه، فقالوا: ووجهك يا رسول اللَّه، ورموا برأسه بين يديه فحمد اللَّه على قتله،
ثم أتوا بصاحبهم الحارث فتفل في جرحه فلم يؤذه، فقال:
صرخت به ولم يجفل لصوتي ... ووافى طالعا من فوق قصر
فعدت فقال من هذا المنادي ... فقلت أخوك عباد بن بشر
فقال محمد أسرع إلينا ... فقد جئنا لتشكرنا وتقري
وترفدنا فقد جئنا سغابا ... بنصف الوسق من حب وتمر
وهذه درعنا رهنا فخذها ... لشهر إن وفي أو نصف شهر
[ (١) ] كذا في (الأصل) ، و (المغازي) ، والأولى: «فقددته» لأن القدّ: الشق طولا، والقطّ: الشق عرضا، قال تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ.