وأورد على ما اقتضاه الحديث- وهو أن الوحي منحصر في الحالتين- حالات أخرى: إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا الصالحة، والتكلم ليلة الإسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح، ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سدّ الأفق. والجواب: منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب، أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال، أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما، فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين، أو لم يأته في تلك الحالة بوحي، أو أتاه به، فكان على مثل صلصلة الجرس، فإنه بيّن بها صفة الوحي، لا صفة حامله. وأما فنون الوحي، فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس، لأن سماع الدويّ بالنسبة إلى الحاضرين- كما في حديث عمر- يسمع عنده كدوي النحل، والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم، فشبهه عمر بدوي النحل بالنسبة إلى السامعين، وشبّهه هو صلّى اللَّه عليه وسلّم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه. وأما النفث في الروع: فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين، فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس، نفث حينئذ في روعه. وأما الإلهام فلم يقع السؤال عنه، لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الّذي يأتي بحامل، وكذا التكليم ليلة الإسراء. وأما الرؤيا الصالحة: فقال ابن بطال: لا ترد، لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس، لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره. والرؤيا الصادقة وإن كانت جزءا من النبوة، فهي باعتبار صدقها لا غير، وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك، ويحتمل أن يكون السؤال قد وقع عما في اليقظة، أو يكون حال المنام لا يخفي على السائل، فاقتصر على ما يخفى عليه، أو كان ظهور ذلك له صلّى اللَّه عليه وسلّم في المنام أيضا على الوجهين المذكورين لا غير. وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا- فذكرها- وغالبها من صفات حامل الوحي، ومجموعها يدخل فيما ذكر. وحديث «إن روح القدس نفث في روعي» ، أخرجه ابن أبي الدنيا في القناعة، وصححه الحاكم من طريق ابن مسعود. قوله: [مثل صلصلة الجرس] ، في رواية مسلم: «في مثل صلصلة الجرس، والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة: في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض، ثم أطلق على كل صوت له طنين، وقيل: هو صوت متدارك لا يدرك في أول وهلة، والجرس: الجلجل الّذي يعلق في رءوس الدواب، واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحسّ.