والجواب: أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه والمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخصّ وصف له. بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالمقصود هنا بيان الجنس، فذكر ما ألف السامعون سماعه، تقريبا لأفهامهم. والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوة وطنين، فمن حيث القوة وقع التشبيه به، ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه، وعلل بكونه مزمار الشيطان. قيل: والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي. قال الخطابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد. وقيل: بل هو صوت خفيف أجنحة الملك. والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي، فلا يبقى فيه مكان لغيره. ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا؟ متدارك؟ وقع التشبيه دون غيره من الآلات. قوله: [وهو أشدّ عليّ] ، يفهم منه أن لوحي كلّه شديد، ولكن هذه الصفة أشدها، وهو واضح، لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أن كل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل وسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشدّ بلا شك. قوله: [فيفصم] بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة، أي يقلع ويتجلى ما يغشاني، ويروي بضم أوله، وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول، وأصل الفصم القطع، ومنه قوله تعالى: لَا انْفِصامَ لَها [البقرة: ٢٥٦] ، وقيل: الفصم بالفاء القطع بلا إبانة، وبالقاف القطع بإبانة، فذكر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلة. قوله: [وقد وعيت عنه ما قال] ، أي القول الّذي جاء به، وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك، ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى- حكاية عمن قال من الكفار-: إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: ٢٥] لأنهم كانوا ينكرون الوحي، وينكرون مجيء الملك به. قوله: [يتمثل لي الملك] ، التمثل مشتق من المثل، أي يتصور، واللام في الملك للعهد وهو جبريل، وقد وقع التصريح به في رواية ابن سعد، وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر. قال المتكلمون: الملائكة أجسام علوية لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا، وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية. و [رجلا] ، منصوب بالمصدرية، أي يتمثل مثل رجل، أو بالتمييز، أو بالحال، والتقدير هيئة الرجل. قال إمام الحرمين: تمثل جبريل معناه أن اللَّه أفنى الزائد من خلقه، أو أزاله عنه، ثم يعيده إليه بعد. وجزم ابن عبد السلام بالإزالة دون الفناء، وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته، بل يجوز أن يبقى الجسد حيا، لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا، بل بعادة أجراها اللَّه تعالى في بعض خلقه. ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى أجواف طيور خضر تسرح في الجنة. قال الحافظ