قوله: «رأى رفرفا أخضر قد سدّ الأفق» ، هذا ظاهره يغاير التفسير السابق أنه رأى جبريل، ولكن يوضح المراد، أخرجه النسائي والحاكم، عن طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: أبصر نبي اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل عليه السّلام على رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض» فيجتمع من الحديثين أن الموصوف جبريل، والصفة التي كان عليها. وقد وقع في رواية محمد بن فضيل عند الإسماعيلي، وفي رواية ابن عيينة عن النسائي، كلاهما عن الشيبانيّ عن زرّ عن عبد اللَّه، أنه رأى جبريل له ستمائة جناح قد سدّ الأفق، والمراد أن الّذي سدّ الأفق الرفرف الّذي فيه جبريل، فنسب جبريل إلى سد الأفق مجازا. وفي رواية أحمد والترمذي، وصححها من طريق عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رأى جبريل في حلة من رفرف قد ملأ ما بين السماء والأرض، وبهذه الرواية يعرف المراد بالرفرف وأنه حلة، ويؤيده قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ [الآية ٧٦/ الرحمن] ، وأصل الرفرف ما كان من الديباج، رقيقا حسن الصنعة، ثم اشتهر استعماله في الستر، وكل ما فضل من شيء فعطف وثنى فهو رفرف. ويقال: رفرف الطائر بجناحه إذا بسطهما، وقال بعض الشّراح: يحتمل أن يكون جبريل بسط أجنحته فصارت تشبه الرفرف، كذا قال، والرواية التي أوردتها توضح المراد. (فتح الباري) : ٨/ ٧٨٦، ٧٨٧. ومن أحاديث الباب ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، في كتاب الإيمان، باب (٧٧) معنى قول اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، وهل رأى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم ربه ليلة الإسراء، حديث رقم ٢٨٧ (١٧٧) : «حدثني زهير بن حرب، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن داود عن الشعبي، عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على اللَّه الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم رأى ربه فقد أعظم على اللَّه الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل اللَّه عزّ وجلّ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فقال: إنما هو جبريل، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين: رأيته منهبطا من السماء، سادّا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، فقالت: أو لم تسمع أن اللَّه يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ أو لم تسمع أن اللَّه يقول: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ؟ قالت: ومن زعم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كتم شيئا من كتاب اللَّه فقد أعظم على اللَّه الفرية، واللَّه يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ؟ قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على اللَّه الفرية، واللَّه يقول: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. (مسلم بشرح النووي) : ٣/ ١٠- ١٢. وأخرج ابن حبان في صحيحه، باب: ذكر رؤية المصطفى صلّى اللَّه عليه وسلّم جبريل بأجنحته، حديث رقم (٦٤٢٧) أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحيّ، حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن الشيبانيّ، قال: «سألت زرّ بن حبيش عن هذه الآية: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [١٨/ النجم] قال: قال عبد اللَّه: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح» . وقال في هامشه: إسناده صحيح على شرط الشيخين. والشيبانيّ: هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان. (الإحسان) : ١٤/ ٣٣٦.