للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وخرج مسلم من حديث عبد اللَّه بن بريد عن يحى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهنيّ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن [الحميري] [ (١) ] حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فسألناه عن ما يقول [هؤلاء] [ (٢) ] في القدر فوفق لنا عبد اللَّه بن عمر فاكتنفته أنا وصاحبي، كان أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفّرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون ألا قدر، وأن الأمر أنف، [قال:

فإذا] [ (٣) ] لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والّذي يحلف به


[ (١) ] في (خ) : «الحميدي» والتصويب من رواية مسلم.
[ (٢) ] زيادة من رواية مسلم.
[ (٣) ] في (خ) : «فقال إذا» والتصويب من رواية مسلم.
قوله: «فاكتنفته أنا وصاحبي» ، يعني صرنا في ناحيتيه، ثم فسّره فقال: أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، وكنفا الطائر جناحاه، وفي هذا تنبيه على أدب الجماعة في مشيهم مع فاضلهم، وهو أنهم يكتنفونه ويحفون به.
قوله: «فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ» معناه يسكت ويفوضه إليّ لإقدامي وجرأتي وبسطة لساني، فقد جاء عنه في رواية «لأني كنت أبسط لسانا» .
قوله: «ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم» ، هو بتقديم القاف على الفاء، ومعناه يطلبونه ويتتبعونه، هذا هو المشهور، وقيل معناه يجمعونه، رواه بعض شيوخ المغاربة من طريق ابن ماهان «يتفقرون» - بتقديم الفاء- وهو صحيح أيضا، معناه يبحثون عن غامضه، ويستخرجون خفيّه. وروى في غير مسلم: «يتقفون» بتقديم القاف، وحذف الراء، وهو صحيح أيضا، ومعناه يتتبعون.
قال القاضي عياض: ورأيت بعضهم قال فيه: «يتقعرون» بالعين، وفسّره بأنهم يطلبون قعره، أي غامضه وخفيّه. ومنه تقعّر في كلامه إذا جاء بالغريب منه، وفي رواية أبي يعلي الموصلي: «يتفقهون» بزيادة الهاء، وهو ظاهر.
قوله: «وذكر من شأنهم» . هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون يحى بن يعمر، والظاهر أنه من ابن بريدة الراويّ، عن يحى بن يعمر، وذكر ابن يعمر من حال هؤلاء، وصفهم بالفضيلة في العلم، والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به.
قوله: «يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف» ، هو بضم الهمزة والنون، أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من اللَّه تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه كما قدمنا حكايته عن مذهبهم الباطل، وهذا القول قول غلاتهم، وليس قول جميع القدرية، وكذب قائله وضلّ وافترى. عافانا اللَّه وسائر المسلمين.