للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتطوَّر الزمن، واتسع الفتح الإسلامي، واختلط العرب بغيرهم بحكم انسياحهم في البلاد المفتوحة، واتساع رقعة الدولة، فلم تعد العربية سليقة لكثير من الناس؛ وخاصة سكان الحضر، وكثرت الحوادث التي لم يكن للمسلمين عهد بها قبل الفتح. وكان ذلك كله مدعاةً لنوع من الضبط لمآخذ الأحكام الفقهية، ليتسنى للمجتهد فهم سليم لنصوص الكتاب والسنّة، وإعطاء أحكام لما يجدُّ من وقائع، لم تكن من ذي قبل.

وقد تمخضت الحاجة إلى الضبط، وقوانين الاستنباط بجانب النصوص، وتنوُّع ظروف البلاد الإسلامية، عن وجود نزعتين في معالجة النص، وإعطاء الحكم لكل حادثة تجد:

إحداهما: نزعة الحديث، وقد غلبت على أهل الحجاز وارث النبوة.

الثانية: نزعة الرأي وقد غلبت في ذلك العصر على أهل العراق، وارث الحضارات.

مع أن كلا الفريقين عنده الحديث وعنده الرأي، وكانت نهضة عظيمة ترمي إلى الوفاء بالحاجات العملية للمجتمع، وقد اتسع ميدان الجدل والمناظرة بين فقهاء النزعتين، كما بدأت تكثر في نظر الباحثين الاحتمالات، والاشتباهات في مدلولات النصوص، ومعاني الألفاظ، وكانت طبيعة هذه المرحلة، تقضي بأن يعنى كل فريق بضبط مسائله؛ فظهرت نثارات من الضوابط هنا وهناك، تعتمد على أذواق تربَّت في ظل الملكات الفكرية في الفقه، والحرص على الاستعانة بما جرى عليه الاستعمال عند الصحابة، وتلامذتهم من التابعين (١).

وتلك الضوابط، وإن لم تتضح معالمها، إلا أن الباحث يجزم أن فهوم أولئك الأئمة واجتهاداتهم، لم تكن عن عبث أو هوى، وإنما كانت ثمرة لما استضاء به ذهن الفقيه، وملكته الواعية المدركة، وإن كان ذلك لم


(١) "إعلام الموقعين" (١/ ٢٨٠). وانظر: "مذكرة في تاريخ التشريع الإسلامي" لعبد الرحمن تاج ومحمد علي السايس (ص ١٥٩ - ١٦٢)، "المدخل للفقه الإسلامي" (ص ٤٤ - ٤٥) لمصطفى شلبي.

<<  <  ج: ص:  >  >>