ولقد تسنّى للشافعي، فيما بعد، أن يتصل بمحمد بن الحسن ﵀ فيأخذ فقه أهل العراق، فانضم هذا إلى ذاك، ومعهما ما استوعبه من فقه مكة بنشأته وإقامته فيها.
كل هذا إلى إمامة في اللغة، ومعرفة بأساليب العرب في شعرها ونثرها، والبيئة التي نزل فيها الوحي. وإذ قد توافر ذلك كله لهذا الإمام الذكي الألمعي، بدأ بتوجيه الدراسات الفقهية وجهة علمية محددة، وهي وجهة العقل العلمي ووضع كتاب "الرسالة" استجابة لطلب عبد الرحمن بن مهدي - كما أسلفنا - التي تحدّث فيها عن الكتاب والسنّة ومراتب البيان، وعن الإجماع والقياس، ورتّب الأصول من كتاب وسنّة وإجماع وقياس وأنزلها منازلها.
كما تحدّث عن الناسخ والمنسوخ، والعموم والخصوص، والأمر والنهي، وعن المجمل وتفصيله، كما بحث الاستحسان، وذكر الاختلاف الجائز منه والمحرم، وأوضح أهمية العلم بلسان العرب لمن يريد فهم الكتاب والسنّة. وما يجب لمن يريد أن يكون قيَّاسًا من معرفة بالواقع مع الاطلاع العلمي كل ذلك بأسلوب علمي منظّم، وبحث منطقي دقيق. وإن كانت الرسالة التي بين أيدينا هي الرسالة الصغرى التي اختصر فيها الرسالة الكبرى التي ما تزال في حيز الفقدان. وفي كتاب "الأم" وغيره الكثير من القواعد الأصولية وتخريج الفروع الفقهية على الأصول.
ويبدو أنه ليس هناك ما يدل على أن أحدًا قبل الإمام الشافعي قد ألّف في أصول الفقه وتفسير النصوص على أن ذلك علم قائم بذاته. قال الإمام أحمد بن حنبل ﵀: لم نكن نعرف العموم والخصوص حتى ورد الشافعي. وقال الجويني في "شرح الرسالة": (لم يسبق الشافعي في تصانيف الأصول ومعرفتها، وقد حكي عن ابن عباس تخصيص عموم، وعن بعضهم القول بالمفهوم من بعدهم لم يُقل في الأصول شيء، ولم يكن لهم فيه قدم، فإنا رأينا كتب السلف من التابعين وتابعي التابعين