للأحكام من منابعها الأولى في عصور ما قبل التقليد، وهذا أمر ينير السبيل أمام الباحث، ليدرك كيف أن هذه الشريعة الغنية بأصولها وفروعها، كانت - وما تزال - قادرة على أن تُمِدَّ الإنسانية في ميدان الأنظمة والتشريع بما يضمن لها الخير، والقوة، والمنعة، والعدالة المطلقة.
ثالثًا: ولقد يكون من بديهيات القول، أن من الأغراض التي يؤديها الموضوع، إدراكَ جانب كبير من الاختلاف بين الأئمة - فيما اختلفوا فيه - كيف نشأ وإلى أي الموارد ينتمي؛ لأن من أسباب الاختلاف الحكمَ على النص عند التفسير.
وبمعرفة الاختلاف وما يتصل به يسهل على الباحث الناطق بالضاد على الأقل قبل غيره، أن يَقْدُرَ الثروةَ الفقهية على اختلاف المذاهب فيها، حق قدرها، ويؤمن أن تشعُّب المذاهب في العصور الأولى من حضارتنا الفقهية لم يكن عبثًا، وإنما كان صورة لهذا البحر الزاخر من التشريع الذي وُلد - على غاية الكمال - وحيًا، ونما وترعرع - بالنسبة إلينا - بحثًا وفهمًا وتفريعًا، فكان شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
ومما لا شك فيه: أن في معرفة مسالك الأئمة والاختلاف، تنميةً للملكة الفقهية الواعية عند الباحث، لما يرى من نماذج حية عند الفقهاء في القدرة على استخراج الأحكام ورد الفروع إلى أصولها، وكيف تختلف هذه الفروع باختلاف الضوابط والأصول؛ وذلك بعد التثبُّت من صحة النص إن كان من السنة.
كما أن في ذلك ما يعطي القدرة على الدقة وضبط النفس، وعدم التسرع في حكم أو فتوى أو قضاء.
ومن هنا أقام الأولون العلم بالاختلاف، في موضع الإيضاح لمعالم الطريق.
روى ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله" أن سعيد بن أبي عَروبة قال: مَن لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالمًا.