للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

٣٩٠٥ - ٣٩٠٦ - حدَّثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ: حدَّثنا اللَّيْثُ، عن عُقَيْلٍ، قالَ ابْنُ شِهابٍ: فَأخبَرَني عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ:

أَنَّ عائِشَةَ ، زَوْجَ النَّبِيِّ ، قالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُما يَدِينانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ طَرَفَيِ النَّهارِ، بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونُ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى بَلَغَ (١) بَرْكَ (٢) الْغِمادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ (٣)، وهو سَيِّدُ الْقارَةِ، فَقالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يا أَبا بَكْرٍ؟ فقالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الأَرْضِ وَأَعْبُدُ (٤) رَبِّي. قالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ (٥): فَإِنَّ مِثْلَكَ يا أَبا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ؛ إِنَّكَ (٦) تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ (٧)، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ على نَوائِبِ الْحَقِّ، فَأَنا لَكَ جارٌ، ارْجِعْ (٨) واعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ. فَرَجَعَ وارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ (٩)، فَطافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ (١٠) عَشِيَّةً فِي أَشْرافِ قُرَيْشٍ، فقالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ (١١) وَلَا يُخْرَجُ (١٢)،

⦗٤٧٥⦘

أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ (١٣)، وَيَصِلُ الرَّحِمَ، وَيَحْمِلُ الْكَلَّ، وَيَقْرِي الضَّيْفَ، وَيُعِينُ على نَوائِبِ الْحَقِّ؟! فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ (١٤)، وَقالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ (١٥): مُرْ أَبا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دارِهِ، فَلْيُصَلِّ فيها وَلْيَقْرَأْ ما شاءَ، وَلَا يُؤْذِينا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ؛ فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِساءَنا وَأَبْناءَنا. فقالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ (١٦) لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دارِهِ، وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دارِهِ، ثُمَّ بَدا لِأَبِي بَكْرٍ، فابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِناءِ دارِهِ، وَكانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَذِفُ (١٧) عَلَيْهِ نِساءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْناؤُهُمْ، وَهُمْ يَعْجَبُونَ منه وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً، لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إذا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرْسَلُوا إلى ابْنِ الدَّغِنَةِ (١٨) فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ (١٩)، فقالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنا أَبا بَكْرٍ بِجِوارِكَ، على أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دارِهِ، فَقَدْ جاوَزَ ذَلِكَ؛ فابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِناءِ دارِهِ، فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ والْقِراءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينا أَنْ يُفْتَنَ نِساؤُنا وَأَبْناؤُنا (٢٠)، فانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ على أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ، فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ؛ فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنا مُقِرِّينَ (٢١) لِأَبِي بَكْرٍ الاِسْتِعْلَانَ. قالَتْ عائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ (٢٢) إلى أَبِي بَكْرٍ فَقالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عاقَدْتُ لَكَ

عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ على ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي؛ فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فقالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوارِ اللَّهِ ﷿. والنَّبِيُّ يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ، فقالَ النَّبِيُّ لِلْمُسْلِمِينَ:

⦗٤٧٦⦘

«إِنِّي أُرِيتُ دارَ هِجْرَتِكُمْ، ذاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ». وَهُما الْحَرَّتانِ، فَهاجَرَ مَنْ هاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، وَرَجَعَ عامَّةُ مَنْ كانَ هاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إلى الْمَدِينَةِ، وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فقالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : «عَلَى رِسْلِكَ؛ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي». فقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ (٢٣)؟ قالَ: «نَعَمْ». فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ على رَسُولِ اللَّهِ لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ راحِلَتَيْنِ كانَتا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ -وهو الْخَبَطُ- أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.

قالَ ابْنُ شِهابٍ: قالَ عُرْوَةُ: قالَتْ عائِشَةُ: فَبَيْنَما نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قالَ قائِلٌ لأَبِي بَكْرٍ: هَذا رَسُولُ اللَّهِ مُتَقَنِّعًا. فِي ساعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينا فِيها، فقالَ أَبُو بَكْرٍ: فِداءٌ (٢٤) لَهُ أَبِي وَأُمِّي، واللَّهِ ما جاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قالَتْ: فَجاءَ رَسُولُ اللَّهِ فاسْتَأذَنَ، فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فقالَ النَّبِيُّ لأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ». فقالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّما هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ. قالَ: «فَإِنِّي (٢٥) قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ». فقالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحابَةَُ بِأَبِي أَنْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ رَسُولُ اللَّهِ : «نَعَمْ». قالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ -بِأَبِي أَنْتَ (٢٦) يا رَسُولَ اللَّهِ- إِحْدَى راحِلَتَيَّ هاتَيْنِ. قالَ رَسُولُ اللَّهِ : «بِالثَّمَنِ». قالَتْ عائِشَةُ: فَجَهَّزناهُما أَحَثَّ (٢٧) الْجَهازِ (٢٨)، وَصَنَعْنا لَهُما سُفْرَةً فِي جِرابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْماءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطاقِها، فَرَبَطَتْ بِهِ على فَمِ الْجِرابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذاتَ النِّطاقِ (٢٩). قالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ بِغارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا (٣٠) فِيهِ ثَلَاثَ لَيالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُما عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وهو غُلَامٌ شابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ (٣١) مِنْ عِنْدِهِما بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ

⦗٤٧٧⦘

بِمَكَّةَ كَبائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتادانِ (٣٢) بِهِ إِلَّا وَعاهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُما بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِما عامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيرِيحُها (٣٣) عَلَيْهِما حِينَ يَذْهَبُ (٣٤) ساعَةٌ مِنَ الْعِشاءِ، فَيَبِيتانِ فِي رِسْلٍ، وهو لَبَنُ مِنْحَتِهِما وَرَضِيفِهِما، حَتَّى يَنْعِقَ بِها عامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ (٣٥) بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيالِي الثَّلَاثِ، واسْتَأجَرَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ، وهو مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيٍّ، هادِيًا خِرِّيتًا -والْخِرِّيتُ: الْماهِرُ بِالْهِدايَةِ- قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعاصِ بْنِ وائلٍ السَّهْمِيِّ، وهو على دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِناهُ فَدَفَعا إِلَيْهِ راحِلَتَيْهِما وَواعَداهُ

غارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيالٍ، بِراحِلَتَيْهِما صُبْحَ ثَلَاثٍ، وانْطَلَقَ مَعَهُما عامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ والدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّواحِلِ.

قالَ ابْنُ شِهابٍ: وَأخبَرَني عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ، وهو ابْنُ أَخِي سُراقَةَ بْنِ مالِكِ (٣٦) بْنِ جُعْشُمٍ: أَنَّ أَباهُ أَخْبَرَهُ:

أَنَّهُ سَمِعَ سُراقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جاءَنا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ وَأَبِي بَكْرٍ دِيَةً، كُلِّ (٣٧) واحِدٍ مِنْهُما، مَنْ (٣٨) قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ، فَبَيْنَما أَنا جالِسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ، أَقْبَلَ (٣٩) رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قامَ عَلَيْنا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقالَ: يا سُراقَةُ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ، أُراها مُحَمَّدًا وَأَصْحابَهُ. قالَ سُراقَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ هُمْ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ، وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا، انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنا. ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ ساعَةً،

⦗٤٧٨⦘

ثُمَّ قُمْتُ فَدَخَلْتُ، فَأَمَرْتُ جارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهيَ مِنْ وَراءِ أَكَمَةٍ، فَتَحْبِسَها عَلَيَّ، وَأَخَذْتُ رُمْحِي، فَخَرَجْتُ بِهِ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ، فَحَطَطْتُ (٤٠) بِزُجِّهِ الأَرْضَ، وَخَفَضْتُ عالِيَهُ، حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُها، فَرَفَعْتُها تُقَرِّبُ (٤١) بِي، حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ، فَعَثَرَتْ (٤٢) بِي فَرَسِي، فَخَرَرْتُ عَنْها، فَقُمْتُ فَأَهْوَيْتُ يَدِي إلى كِنانَتِي، فاسْتَخْرَجْتُ منها الأَزْلَامَ فاسْتَقْسَمْتُ (٤٣) بِها: أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي، وَعَصَيْتُ الأَزْلَامَ، تُقَرِّبُ (٤٤) بِي حَتَّى إذا سَمِعْتُ قِراءَةَ رَسُولِ اللَّهِ وهو لَا يَلْتَفِتُ، وَأَبُو بَكْرٍ يُكْثِرُ الاِلْتِفاتَ، ساخَتْ يَدا فَرَسِي فِي الأَرْضِ، حَتَّى بَلَغَتا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْها، ثُمَّ زَجَرْتُها فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْها، فَلَمَّا اسْتَوَتْ قائِمَةً، إذا لِأَثَرِ يَدَيْها عُثانٌ (٤٥) ساطِعٌ فِي السَّماءِ مِثْلُ الدُّخانِ، فاسْتَقْسَمْتُ بِالأَزْلَامِ، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهُ، فَنادَيْتُهُمْ بِالأَمانِ فَوَقَفُوا، فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيتُ ما لَقِيتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ، أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ . فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَخْبارَ ما يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ، وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الزَّادَ والْمَتاعَ، فَلَمْ يَرْزَآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي، إِلَّا أَنْ قالَ (٤٦): «أَخْفِ عَنَّا». فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتابَ أَمْنٍ، فَأَمَرَ عامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدِيمٍ (٤٧)، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ .

قالَ ابْنُ شِهابٍ: فَأخبَرَني عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كانُوا تِجارًا قافِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ وَأَبا بَكْرٍ ثِيابَ

⦗٤٧٩⦘

بَياضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ مَخْرَجَ (٤٨) رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مَكَّةَ، فَكانُوا

يَغْدُونَ كُلَّ غَداةٍ إلى الْحَرَّةِ، فَيَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فانْقَلَبُوا يَوْمًا بَعْدَما أَطالُوا انْتِظارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إلى بُيُوتِهِمْ، أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ على أُطُمٍ مِنْ آطامِهِمْ، لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ وَأَصْحابِهِ مُبَيَّضِيْنَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يا مَعاشِرَ (٤٩) الْعَرَبِ، هَذا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثارَ الْمُسْلِمُونَ إلى السِّلَاحِ، فَتَلَقَّوْا رَسُولَ اللَّهِ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَ (٥٠) ذَلِكَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، فَقامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جاءَ مِنَ الأَنْصارِ -مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ (٥١) يُحَيِّي أَبا بَكْرٍ، حَتَّى أَصابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأُسِّسَ الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ على التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ، ثُمَّ رَكِبَ راحِلَتَهُ، فَسارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ (٥٢) حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ بِالْمَدِينَةِ، وهو يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ، لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حَجْرِ أَسْعَدَ (٥٣) بْنِ زُرارَةَ، فقالَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ راحِلَتُهُ: «هَذا إِنْ شاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ». ثُمَّ دَعا رَسُولُ اللَّهِ الْغُلَامَيْنِ فَساوَمَهُما بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقالَا: لَا، بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يا رَسُولَ اللَّهِ. فأبَى رسولُ اللهِ أن يَقْبَله منهما هِبةً حتَّى ابْتاعَه مِنْهما (٥٤)، ثُمَّ بَناهُ مَسْجِدًا، وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيانِهِ وَيَقُولُ، وهو يَنْقُلُ اللَّبِنَ:

⦗٤٨٠⦘

«هَذا الحِمالُ لَا حِمالُ (٥٥) خَيْبَرْ. هَذا أَبَرُّ رَبَّنا وَأَطْهَرُ (٥٦)».

وَيَقُولُ:

«اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ. فارْحَمِ الأَنْصارَ والْمُهاجِرَهْ».

فَتَمَثَّلَ بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ لِي.

قالَ ابْنُ شِهابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنا فِي الأَحادِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تامٍّ غَيْرِ هَذا الْبَيْتِ (٥٧).


(١) في رواية أبي ذر: «حتى إذا بلغَ».
(٢) في رواية أبي ذر: «بِرْكَ» بكسر الباء (و، ب، ص)، وأهمل ضبطها في (ن).
(٣) في رواية أبي ذر: «الدُّغُنَّةِ».
(٤) صحَّح عليها في اليونينيَّة، وفي رواية أبي ذر: «وأعبدَ» بالنصب (ن)، وهو المثبت في متن باقي الأصول دون ذكر اختلاف.
(٥) في رواية أبي ذر: «الدُّغُنَّةِ».
(٦) في رواية المُستملي والكُشْمِيْهَنِيِّ: «أنْتَ».
(٧) في رواية أبي ذر والكُشْمِيْهَنِيِّ: «المُعْدِمَ».
(٨) في رواية أبي ذر: «فارجع».
(٩) في رواية أبي ذر: «الدُّغُنَّةِ».
(١٠) في رواية أبي ذر: «الدُّغُنَّةِ».
(١١) لفظة: «مِثْلُهُ» ليست في (ن)، وهو موافق لنسخة البقاعي، وأشار إلى وجودها في نسخة.
(١٢) في رواية أبي ذر: «لا يُخْرَجُ مثله ولا يَخْرُجُ».
(١٣) في رواية أبي ذر والكُشْمِيْهَنِيِّ: «المُعْدِمَ».
(١٤) في رواية أبي ذر: «الدُّغُنَّةِ».
(١٥) في رواية أبي ذر: «الدُّغُنَّةِ».
(١٦) في رواية أبي ذر: «الدُّغُنَّةِ».
(١٧) في رواية أبي ذر: «فَيَتَقَذَّفُ». وبهامش اليونينية نقلًا عن عياض: في حديث أبي بكر: «فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِساءُ الْمُشْرِكِينَ» كذا للمروزي والمُستملي، وعند غيرهما من شيوخ أبي ذر: «فَيَتَقَذَّفُ» [زاد في (ب، ص): بتشديد الذال] وعند الجرجاني: «فيَنْقَصِفُ» وهو المعروف. اهـ.
(١٨) في رواية أبي ذر: «الدُّغُنَّةِ».
(١٩) في رواية أبي ذر والكُشْمِيْهَنِيِّ: «عليه».
(٢٠) في رواية أبي ذر: «أنْ يَفْتِنَ نساءنا وأبناءنا» (ن، و). وضبط المتن في (ب، ص) بوجهين: «يفتِن نساءَنا وأبناءَنا» بفتح الياء وضمها، دون عزو، وأشار إليها بهامش (ق).
(٢١) في رواية أبي ذر: «بمقرينَ».
(٢٢) في رواية أبي ذر: «الدُّغُنَّةِ».
(٢٣) في رواية أبي ذر والكُشْمِيْهَنِيِّ زيادة: «وأمي».
(٢٤) في رواية أبي ذر والحَمُّويي والمُستملي: «فِدًى».
(٢٥) في رواية أبي ذر والكُشْمِيْهَنِيِّ: «فإنه».
(٢٦) صحَّح هنا في اليونينيَّة.
(٢٧) في رواية الحَمُّويي والمُستملي: «أَحبَّ».
(٢٨) أهمل ضبط الجيم في (ن، و)، وضبطها في (ق) بالكسر والفتح معًا.
(٢٩) في رواية أبي ذر والكُشْمِيْهَنِيِّ: «النِّطاقَيْنِ».
(٣٠) بهامش اليونينية: «كَمَنَ» بفتح الميم هي اللغة الفصحى، ويقالُ بكسرها.
(٣١) في رواية أبي ذر: «فَيَدَّلِجُ».
(٣٢) في رواية أبي ذر والكُشْمِيْهَنِيِّ: «يُكادانِ».
(٣٣) ضُبطت في اليونينية بضبطين: «فيُريحها»، و «فيَريحها»، وضبطها في (و، ق): «فيُريحها»، وأهمل ضبطها في (ن).
(٣٤) ضُبطت في اليونينية بضبطين: المثبت، و «تَذْهَبُ».
(٣٥) قوله: «بن فهيرة» ليس في رواية أبي ذر.
(٣٦) قوله: «بن مالك» ليس في رواية أبي ذر.
(٣٧) في (ن، ب، ص): «ديةً كلّ»، وبهامش (ب، ص): لم يضبط اللام في اليونينية، وكسرها في فرعٍ. اهـ. وضبطت في (و): «ديةَ كلِّ».
(٣٨) في رواية أبي ذر: «لِمَنْ».
(٣٩) في رواية أبي ذر عن الحَمُّويي والمُستملي: «إذ أقبل».
(٤٠) في رواية أبي ذر والكُشْمِيْهَنِيِّ: «فخططت».
(٤١) في رواية أبي ذر: «فَرَفَّعْتُها تُقَرَّبُ». وبهامش اليونينية نقلًا عن عياض: قوله: «فَرَفَّعْتُها تُقَرِّبُ بي» و «تَقَرَّبُ [في (ب، ص): كذا في اليونينة التاء في هذه مفتوحة] بي» يعني فرسه، وهو ضرب من الإسراع، قال الأصمعي: وهو التقريب، أن ترفع الفرس يديها معًا، وتضعهما معًا. اهـ.
(٤٢) في رواية أبي ذر: «وعَثَرَت».
(٤٣) في رواية أبي ذر: «واسْتَقْسَمْتُ».
(٤٤) في رواية أبي ذر: «تُقَرَّبُ» بفتح الراء (ن، و)، وضبطت في (ب، ص) بالوجهين دون عزو.
(٤٥) في رواية أبي ذر والكُشْمِيْهَنِيِّ: «غُبارٌ».
(٤٦) صحَّح عليها في اليونينيَّة.
(٤٧) بهامش اليونينية دون رقم: «أَدَمٍ».
(٤٨) في رواية أبي ذر: «بِمَخْرَجِ».
(٤٩) في رواية أبي ذر: «يا مَعْشَرَ».
(٥٠) بهامش اليونينية دون رقم: «وكان»، بدل: «وذلك».
(٥١) بهامش اليونينية دون رقم: «النَّبيَّ».
(٥٢) في رواية أبي ذر والكُشْمِيْهَنِيِّ: «مع الناس».
(٥٣) في رواية أبي ذر: «سَعْد». والمثبت أوجه كما في الفتح.
(٥٤) قوله: «فأبَى رسولُ اللهِ أن يَقْبَله منهما هِبةً حتَّى ابْتاعَه مِنْهما» ثابت في رواية أبي ذر أيضًا، وهو مُهمَّش في (ب، ص).
(٥٥) ضبطت في (ق، ص): «لا حمالَ». وفي رواية أبي ذر: «هذا الحَمَالُ لا حَمال» بفتح الحاء، وبهامش اليونينية نقلًا عن عياض: قوله: «هَذا الحَمالُ لَا حَمال خَيْبَرْ» أي: هذا الِحملُ والمحمولُ من اللَّبِن آثرُ عند الله وأطهرُ، أي أبقى ذخرًا وأدوم منفعة، لا حَمال خيبر من التمر والزبيب والطعام المحمول منها، الذي يَتَغَبَّط به حاملوه، أو الذي كنَّا من قبل نحمله ونغتبط به، والحمل والحَمال واحدٌ، وقد رواه المُستملي بالجيم، وله وجه، والأول أظهرُ. اهـ. ثم كتب بالحمرة: بكسر الحاء المهملة من حمال، عن ابن الأثير وغيره.
(٥٦) ضبطت في (ب، ص) بسكون الراء.
(٥٧) في رواية أبي ذر: «غيرِ هذه الأبيات».