ولو علم أمير المؤمنين أنك اجترمت إليه جرما، أو انتهكت له عرضا غير ما كتب إليه، لفعل ذلك بك. فإذا قرأت كتابي هذا، فكن له أطوع من نعله، واعرف حقّه، وأكرمه وأهله، ولا تقصرنّ في شيء من حوائجه، فو اللَّه لو أن اليهود رأت رجلا خدم العزير، أو النّصارى رأت رجلا خدم المسيح، لوقّروه وعظّموه، فتبا لك، لقد اجترأت ونسيت العهد، وإياك أن يبلغني عنك خلاف ذلك، فأبعث إليك من يضربك بطنا لظهر، ويهتك سترك، ويشمت بك عدوك، والقه في منزله متنصّلا إليه ليكتب إليّ برضاه عنك! ولِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وكتب عبد الملك إلى أنس: لأبي حمزة أنس بن مالك، خادم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، من عبد الملك، سلام عليك، أما بعد، فإنّي قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت في أمر الحجاج، وإني واللَّه ما سلطته عليك ولا على أمثالك. وقد كتبت إليه ما يبلغك، فإن عاد لمثلها فعرّفني حتى أحلّ به عقوبتي، وأذلّه بسطوتي، والسلام عليك. ثم أرسل إلى إسماعيل بن عبد اللَّه بن أبي المهاجر، ودفع إليه الكتابين، وقال: اذهب إلى أنس والحجاج، وابدأ بأنس، وقل له: أمير المؤمنين يسلم عليك ويقول لك: قد كتبت إلى عبد بني ثقيف كتابا إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك، واستعرض حوائجه، فركب إسماعيل البريد، فلما دفع الكتاب إلى الحجاج، جعل يقرأه ويتمعّر وجهه، ويرشح عرقا، ويقول: يغفر اللَّه لأمير المؤمنين! ثم قال: نمضي إلى أنس، فقال له: على رسلك، ثم مضي إلى أنس وقال له: يا أبا حمزة، قد فعل أمير المؤمنين معك ما فعل، وهو يقرأ عليك السلام، ويستعرض حوائجك. فبكى أنس وقال: جزاه اللَّه خيرا، كان أعرف بحقي، وأبرّ بي من الحجاج. قال: وقد عزم الحجاج على المجيء إليك، فإن رأيت أن تتفضل عليه فأنت أولى بالتفضل. فقام أنس ودخل إلى الحجاج إليه واعتنقه وأجلسه على سريره، وقال: يا أبا حمزة، عجلت عليّ بالملامة، وأغضبت أمير المؤمنين، وأخذ يعتذر إليه ويقول: قد علمت شعب أهل العراق، وما كان من ابنك مع ابن الجارود، ومن خروجك مع ابن الأشعث، فأردت أن يعلموا أني أسرع اليهم بالعقوبة إذ قلت لمثلك ما قلت. فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ مني الجهد، زعمت أننا الأشرار، واللَّه سمّانا الأنصار، وزعمت أننا أهل النفاق، ونحن الذين تبوّأنا الدار والإيمان، واللَّه يحكم بيننا وبينك، وما وكلتك إلى أمير المؤمنين إلا حيث لم يكن لي به قوة، ولا آوي إلى ركن شديد. ودعا لعبد الملك وقال: إن رأيت خيرا حمدت، وإن رأيت شرّا صبرت، وباللَّه استعنت. وكتب الحجاج إلى عبد الملك: أما بعد، فأصلح اللَّه أمير المؤمنين وأبقاه، ولا أعدمناه، وصلني الكتاب يذكر فيه شتمي وتعييري بما كان قبل نزول النعمة بي من أمير المؤمنين، ويذكر استطالتي على أنس، جرأة مني على أمير المؤمنين، وغرّة مني بمعرفة سطواته ونقماته، وأمير المؤمنين أعزّه اللَّه في قرابته من رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم أحقّ من أقالني عثرتي، وعفا عن جريمتي، ولم يعجّل عقوبتي، ورأيه العالي في تفريج كربتي، وتسكين روعتي، أقاله اللَّه العثرات: قد رأى إسماعيل بن أبي المهاجر خضوعي لأنس، وإعظامي إيّاه.... واعتذر إليه اعتذارا كثيرا.