للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأمر إلى حس مرهف نحو القياس، ناشئ عن المبالغة في التمسك بالظاهر. ومفهومُ الموافقة في نظره كما أسلفنا واحد من أفراد القياس، فكان ما كان من مجافاة اللغة في هذه المسألة (١).

على أن القياس بأنواعه التي ذكرها العلماء، وفي الحدود التي وضعوها لضبطه وسلامة الأخذ به: لا يمكن أن يكون خروجًا عن النص أو حكمًا بغير ما أنزل الله.

ولقد نتج عن تشدُّد ابن حزم في التمسك بالظاهر: أنه لم يكتفِ بإغلاق بابه دون القياس، بل أغلقه بإحكام مُتَكلَّفٍ دون مفهوم الموافقة أيضًا، مع أن إدراك الحكم عن طريقة لا يحتاج إلى رأي واجتهاد.

ولنترك الكلام مع أبي محمد مكتفين بما ذكرنا في صدر حديثنا عن مفهوم الموافقة (دلالة النص) عند الحنفية والمتكلمين، وبقدر من المناقشة له في آية التأفيف، لنقرر أن ادعاء خروج القائلين بمفهوم الموافقة عن حدود المعقول والشريعة واللغة، ادعاء أعوزته سلامة الاحتجاج حتى كاد يصبح دعوى بلا دليل.


(١) ومن هنا رأينا العلماء لا يرتضون ما ذهب إليه ولا يلتمسون له العذر، قال الذهبي في معرض كلام أبي محمد عن آية التأفيف: (قلت: يا هذا بهذا الجمود وأمثاله جعلت على عرضك سبيلًا، ونصبت نفسك أعجوبة وضحكة. بل يقال لك: ما فهم أحد قط من عربي ولا نبطي ولا عاقل ولا واع، أن النهي عن قول "أُف" للوالدين إلا وما فوقها أولى بالنهي منها، وهل يفهم ذو حسٍّ سليم إلا هذا؟ وهل هذا إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، وبالأصغر على الأكبر؟ بل مثل هذا مما أمن فيه حفظ اللسان العربي بل والعجمي والتركي والنبطي وجميع خطاب بني آدم.
وهل إذا قال: (لا تنهر والديك) إلا والنهي عن شتمهما أو لعنهما أو ضربهما حتى يستغيثا أو خنقهما حتى يموتا بطريق الأولى؟ إذ ما كان أبلغ من قول (أُف) أو انتهارهما فإن فيه ما في ذلك وزيادة بيقين، وتقرير مثل هذا الضرب هي، فإن الرجل إذا قال لامرأته: (لا تكلمي الرجال أضربك) فذهبت وزنت مع الرجال ولم تكلمهم كلمة، كانت عاصية له قطعًا بل كانت أشد عصيانًا بذاك وأحق بالضرب وأوْلى من أن لو كلمت الرجال فقط. .) انظر: "ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل" للإمام ابن حزم، تحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني (ص ٢٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>