الثاني: أن الأخفش وهو أحد أئمة العربية أيضًا لم يقل: بأن تقييد الحكم بالصفة على نفيه عمن انتفت عنه تلك الصفة، وعلى ذلك يكون ما فهمه أبو عبيد والشافعي معارضًا بما فهمه الأخفش، وهذا يدل على أن نفي الحكم عن غير الموصوف، ليس من فهم اللغة اتفاقًا كما يدّعي من يثبت ذلك.
ولكن الفريق الأول لم تعوزه الإجابة عما أورده هؤلاء.
أ - أما عن الإيراد الأول .. وهو عدم قبول ما جاء به أبو عبيد والشافعي، فقد قالوا: إن أكثر اللغة إنما يثبت بقول الأئمة: إن معنى اللفظ كذا، والاحتمال قائم أن لا يكون معنى اللفظ كذلك.
ولكن هذا الاحتمال لم يمنع من إفادة الظن بأن هذا المعنى هو معنى اللفظ لغة، ولو كان ذلك قادحًا في ثبوت هذا القدر من اللغة، لما ثبت مفهوم شيء من اللغات.
ب - أما عن معارضة الأخفش لما فهمه أبو عبيد والشافعي: فقد أجابوا عنها بأن نفي الأخفش لمفهوم الصفة، لم يبلغ من قوة الثبوت ما بلغه قول ذينك الإمامين به، فإن أبا عبيد قد كرّر ذلك في مواضع من كلامه كما علمت، فصار القدر المشترك مستفيضًا.
والشافعي روى عنه ذلك أصحابه مع كثرتهم، كما رواه عنه المخالفون له، ولا كذلك طريق الرواية عن الأخفش، فإن الرواية عنه لا تداني في النقل والثبوت الرواية تلك.
على أن أبا عبيد والشافعي - وهما أصح من الأخفش علمًا وشهرة - يشهدان بالإثبات، والأخفش يشهد بالنفي، ومن القواعد المقررة أن المثبت أوْلى بالقبول من النافي؛ لأن النافي إنما ينفي لعدم الوجدان، وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود إلا ظنًا، والمثبت يثبت للوجدان، والوجدان بدل على الوجود قطعًا (١).