للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليها رجلًا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه، ثم تأوله على غير تأويله" وكذلك كلام ابن مسعود إذ يقول: "ستجدون أقوامًا يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، وإياكم والتنطُّع" (١).

وإذا كان الأمر كذلك: لا بد من حمل الكلام المنقول عن بعض السلف في التباعد عن القول في القرآن بالرأي، على ما يكون من النوع الثاني وهو الرأي المذموم؛ فهم لا يريدون أن يتكلموا فيما لا علم لهم به، خشية أن يقعوا في الخرص والتخمين.

ومن هنا جعل أبو جعفر الطبري إحجام من أحجم من السلف عن الخوض في التفسير، كفعل من أحجم منهم عن الفتيا عن الحوادث والنوازل، خوف أن لا يبلغ في اجتهاده ما كلف الله العلماءَ من عباده وفيه.

وهكذا كان الإحجام عن القيل في تأويل القرآن وتفسيره: الحذر من أن لا يبلغ المفسِّر أداء ما كُلِّف من إصابة صواب القول فيه، لا على أن تأويل ذلك محجوب عن علماء الأمة، غير موجود بين أظهرهم (٢).

ولقد يؤيد ذلك: ما نرى في سيرة الصدّيق أبي بكر، حين سئل عن الكلالة فقال: "إني سأقول فيها برأيي؛ فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولده".

وهو القائل كما أسلفنا: "أي سماء تظلُّني وأي أرض تقلُّني إذا قلت في القرآن برأيي"، فدلّ ذلك على أن تخوُّفه إنما كان من نوع معين من الرأي؛ فهو يخاف الله أن يقول برأي لا يستند إلى دليل، بل يعتمد على الخرص والتخمين، ولكنه يُقدم على القول فيما وراء ذلك.


(١) راجع: "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر (٢/ ٣٤) فما بعدها، "مقدمة في أصول التفسير" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص ٢٩ - ٣٢).
(٢) راجع: "تفسير الطبري" (١/ ٨٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>