الإمام أبي حنيفة ﵀ وأصحابه كأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر وغيرهم، هي الأساس في الخط الذي جرى فيه سير القواعد المراد وضعها، فبدلًا من أن تكون هنالك قواعد تخضع لها فروع تستخرج منها، نجد هنا فروعًا تخضع لها القواعد، ولذلك نرى مثلًا أبا بكر الجصاص في كتابه "الأصول" يأتي بالقاعدة، وبعد أن يقررها يقول: على هذا دلّت فروع أصحابنا. وهذا ما نراه عند الدبوسي والسرخسي والبزدوي وغيرهم. وقد أشرت إلى ذلك من قبل.
والأمثلة على ذلك كثيرة وفيرة (١). . . كما يأتي التفصيل في مواطنه من البحث؛ ومن هنا كانوا إذا لم تنضبط القاعدة على بعض الفروع، شكّلوها بالشكل الذي يتفق مع ذلك الفرع الذي خرج عن القاعدة. فمثلًا: إنهم يقررون أن (المشترك) لا يطلق على معنييه جميعًا مرة واحدة، وحين يخرج من ذلك واقعة من يوصي لمواليه - والمولى يشمل المعيق والمعتَق - خرجوا على القاعدة الأولى وقالوا: المشترك لا يَعُمُّ: في حال النفي، لا في حال الإثبات.
وبيان ذلك أنه على القاعدة الأولى: تبطل الوصية لجهالة الموصى له، وفي الحالة الثانية يمكن اعتبار الوصية غير باطلة، لأن الكلام مثبت لا منفي.
وكما في مسألة (المقتضى والمحذوف) التي سيأتي الكلام عنها في دلالة الاقتضاء؛ فالحنفية لا يقولون بمعموم المقتضى، ولكن عندما اعترضت سبيلهم بعض الفروع: عمدوا إلى التفريق بين المقتضى والمحذوف؛ فالأول لا عموم له والثاني لا مانع من أن يكون له عموم، فما بدا أن له عمومًا - كما في بعض الفروع - فهو من المحذوف، وليس من المقتضى.
(١) انظر: "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (٣/ ٩٨)، مقدمة "الإبهاج شرح المنهاج" لتقي الدين السبكي (١/ ٤) "أصول التشريع الإسلامي" لعلي حسب الله (ص ٧).