للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

وظل الأمن، وهو الذي نهى عنه الشارع وأراده بقوله: "من فارق الجماعة فمات، فميتته جاهلية" (١). وذلك أن أهل الجاهلية لم يكن لهم إمام يجمعهم على دين، ويتألفهم على رأي واحد، بل كانوا (طوائف) (٢) شتى، وفرقًا مختلفين، آراؤهم متناقضة، وأديانهم متباينة، وذلك الذي دعا كثيرًا منهم إلى عبادة الأصنام، وطاعة الأزلام رأيًا فاسدًا اعتقده في أن عندها خيرًا، أو أنها تملك لهم نفعًا أو تدفع عنهم ضرًا.

فأما عزلة الأبدان ومفارقة (الجماعة) (٣) التي هي العوام، فإن من حكمها أن تكون تابعة للحاجة، وجارية مع المصلحة، وذلك أن عظم الفائدة اجتماع الناس في المدن وتجاورهم في الأمصار، إنما هو أن يتضافروا ويتعاونوا على المصالح ويتوازروا فيها إذ كانت مصالحهم لا تكمل إلا به ومعايشهم لا تزكو إلا عليه، فللإنسان أن يتأمل حال نفسه فينظر في أية طبقة يقع منهم، وفي أي جهة ينحاز من جملتهم؛ فأما من كانت أحواله تقتضي المقام بين ظهراني العامة، لما يلزمه من إصلاح المهنة التي لا غنية له به عنها، ولا يجد بدًّا من الاستعانة بهم فيها. ولا وجه لمفارقتهم في الدار ومباعدتهم في السكن والجوار، فإنه إذا فعل ذلك تضرر بوحدته، وأضر من وراءه من أهله وأسرته، وإن كانت نفسه بكلها مستقلة، وحاله في ذاته وذويه متماسكة فالاختيار له في هذا الزمان اعتزال الناس، ومفارقة عوامهم، فإن السلامة في مجانبتهم، والراحة في التباعد منهم، ولسنا نريد -رحمك


(١) ابن حبان ١٣/ ٣٠٣ (٥٩٦٥).
(٢) في الأصل: (طرائق).
(٣) في (ص ٢): (الجوامع).

<<  <  ج: ص:  >  >>