وسيكون لنا عودة إلى ذلك في كتاب القدر إن شاء الله ذلك وقدره.
وفيه: تنكيس الرءوس في الجنائز، وظهور الخشوع والتفكر في أمر الآخرة، كان الناس إذا حضروا جنازة يلقى أحدهم حميمه فلا ينشط إليه ولا يقبل عليه إلا بالسلام حَتَّى يرى أنه واجد عليه؛ لما يشغلون أنفسهم من ذكر الموت وما بعده، وكانوا لا يضحكون هناك، ورأى بعضهم رجلًا يضحك فآلي أن لا يكلمه أبدًا، وكان يبقى أثر ذلك عليهم ثلاثة أيام، لشدة ما أشعروا أنفسهم، وحضر الحسن والفرزدق جنازة فقال الحسن للفرزدق: ماذا أعددت لهذا المقام؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة. فقال الحسن: خذها من غير رامٍ، ثم قَالَ له: ما يقول الناس يا أبا فراس؟ فقال: يقولون: حضر اليوم خير الناس وشر الناس يعني: الحسن ونفسه. فقال له: ما أنت بشرهم، ولا أنا بخيرهم، فلما توفي الفرزدق رآه رجل في المنام فقال له رجل: ما فعلت؟ قَالَ: نفعتني كلمتي مع الحسن (١).
وقول الرجل:(أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟) فيه مطالبة بأمرٍ مضمونه تعطيل العبودية، وذلك أن إخباره - صلى الله عليه وسلم - بسبق الكتاب بالسعادة والشقاء، إخبار عن علم الغيب فيهم، وهو حجة عليهم، فراموا أن يتخذوه حجة لأنفسهم في ترك العمل والاتكال على سابق الكتاب.
فأعلم أن ها هنا أمرين لا يبطل أحدهما الآخر: باطن: هو العلة الموجبة في أمر الربوبية. وظاهر: هو السمة اللازمة في حق العبودية، وإنما هو أمارة مخيلة في مطالعة أمر العواقب غير مفيدة حقيقة العلم
(١) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" ٧/ ١٤٠، وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب" ٣/ ٢٨٦ (١٩٩٤) والذهبي في "سير أعلام النبلاء" ٤/ ٥٨٤.