فإن قلت: فحديث عائشة في الباب لما هجرت عبد الله بن الزبير، وحلفت أن لا تكلمه أبدًا، فتحيل عليها بالشفعاء حتَّى كلمته.
قيل: معنى الهجرة: هو ترك كلام الرجل أخيه مع تلاقيهما واجتماعهما، وإعراض كل واحد منهما عن صاحبه مصارمة له، وتركًا للسلام، وذلك أن من حق المسلم على المسلم إذ تلاقيا أن يسلم كل واحد منهما على صاحبه، فإذا تركا ذَلِكَ بالمصارمة فقد دخلا فيما حظر الله، واستحقا العقوبة إن لم يعف الله عنهما، فعائشة لم تكن ممن تلقى ابن الزبير فتعرض عن السلام عليه صرمًا له، وإنما كانت من وراء حجاب، ولا يدخل عليها أحد إلا بإذن، وكان لها منع ابن الزبير الدخول كما سلف.
وأخبر - عليه السلام - بسبب حظر الله تعالى هجرة المسلم أخاه أن ذَلِكَ إنما هو من أجل تضييعهما ما أوجب الله عليهما عند تلاقيهما، فأما إذا لم يلتقيا فيفرط كل واحد منهما في واجب حق أخيه عليه فذلك بعيد من معنى الهجرة.
وقد تأول غير الطبري في هجرة عائشة - رضي الله عنها - لابن الزبير وجهًا آخر، فقال: إنما ساغ لعائشة ذَلِكَ؛ لأنها أم المؤمنين ولازم توقيرها وبرها لجميع المؤمنين، وتنقصها كالعقوق لها، فهجرت ابن الزبير أدبًا له، ألا ترى أنه لما فرغ نزع عن قوله، وندم عليه، وتشفع إليها، رجعت إلى مكالمته، وكفرت يمينها. وهذا من باب إباحة هجران من عصى والإعراض عنه حتَّى يفيء إلى الواجب عليه.