قال بعض العلماء: وقد ظن من لم يُنعم النظر أن المداراة هي المداهنة، وذلك غلط؛ لأنها مندوب إليها، والمداهنة محرمة. والفرق بينهما لائح؛ لأن المداهنة اشتق اسمها من الدهان الذي يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها، قال العلماء: وهي أن يلقى الفاسق المظهر لفسقه فيؤالفه ويؤاكله ويشاربه، ويرى أفعاله المنكرة ويريه الرضا بها ولا ينكرها عليه ولو بقلبه. فهذِه المداهنة التي برأ الله منها نبيه - عليه السلام - بقوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩)} [القلم: ٩].
والمداراة: هي الرفق بالجاهل الذي يتستر بالمعاصي ولا يجاهر بالكبائر، والمعاطفة في رد أهل الباطل إلى مراد الله بلين ولطف، حتَّى يرجعوا عَمّا هم عليه.
فإن قلت: فما الجواب عن حديث: "بئس ابن العشيرة" ثم حدثه وأثنى عليه شرًّا عند خروجه؟ قلت: كان - عليه السلام - مأمورًا بألا يحكم على أحد إلا بما ظهر منه للناس، لا بما يعلمه هو منهم دون غيره. وكان المنافقون لا يظهرون له إلا التصديق والطاعة، فكان الواجب عليه ألا يعاملهم إلا بمثل ما أظهروا له؛ إذ لو حكم في علمه بشيء من الأشياء لكانت سنة أن يحكم كل حاكم بما اطلع عليه، فيكون شاهدًا وحاكمًا. والأمة مجمعة أنه لا يجوز ذَلِكَ. وقد قال - عليه السلام - في المنافقين:"أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم"(١). والداخل عليه إنما كان يظهر في ظاهر لفظه الإيمان، فقال فيه - عليه السلام - قبل وصوله إليه وبعد خروجه ما علمه دون أن يظهر له في وجهه، بما لو أظهره صار حكمًا.
(١) رواه أحمد ٥/ ٤٣٢ - ٤٣٣ من طريق عبيد الله بن عدي بن الخيار، عن رجلٍ من الأنصار مرفوعًا، ورواه مالك في "الموطأ" ص ١٢٤ عن عبيد الله بن عدي مرسلاً.