الله من ذهاب رجله، وإن ذهاب سمعه أفضل من ذهاب بصره، فليس ها هنا موضع للفضل، وإنما هي محن يبلو الله بها عباده؛ ليعلم الصابرين والشاكرين من غيرهم. ولم يأت في الحديث فيما علمت أنه - عليه السلام - كان يدعو على نفسه بالفقر، ولا يدعو كذلك على أحد يريد به الخير، بل كان يدعو بالكفاف، ويستعيذ بالله من شر فتنة الفقر وفتنة الغنى، ولم يكن يدعو بالغنى إلا بشريطة يذكرها في دعائه.
فأما ما روي عنه أنه كان يقول:"اللهم أحيني مسكينًا .. ". الحديث فإن ثبت في النقل فمعناه: ألا يجاوز به الكفاف، أو يريد به الاستكانة إلى الله. يوضحه أنه ترك أموال بني النضير وسهمه من فدك وخيبر فغير جائز أن يظن به أن يدعو إلى الله ألا يكون بيده شيء، وهو يقدر على إزالته من يده بإنفاقه.
وما روي عنه أنه قال:"اللهم من آمن بي .. " إلى آخره، فلا يصح في النقل ولا في الاعتبار، ولو كان إنما دعا بذلك في قلة المال وحدها، لكان محتملًا أن يدعو لهم بالكفاف، وأما دعاؤه في قلة الولد فكيف يدعو أن يقل المسلمون؟ وما يدفعه العيان (فمدفوع)(١) عنه - عليه السلام -، وأحاديثه لا تتناقض، كيف يذم معاوية ويأمر أبا لبابة وسعدًا أن يبقيا ما ذكر من المال؟ ويقول: إنه خير، ثم يخالف في ذلك، وقد ثبت أنه دعا لأنس بكثرة ماله وولده، وأن يبارك له فيما أعطيه، قال أنس: ولقد أحصت ابنتي أني قدمت من صلبي مقدم الحجاج البصرة مائة وبضعة وعشرين نسمة بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -كما سلف، وعاش بعد ذلك ستين سنة، وولد له.