قال أبو عبيد: وكان ابن عيينة يفسره على معنى الحديث الأول: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة، وهو أشبه عندي بتأويل الحديث من القول الآخر.
فإن كان كما قال ابن عيينة فإنه حكم قد اختلف فيه أهل الحجاز والعراق، فقال مالك وأهل المدينة: لا يقيمها إلا أن يعلمها ثم عَلَّمَها.
وهو قول ابن أبي ليلى، فأما غيره من أهل العراق فيقبلون البينة، ويتبعون فيه قول شريح الذي ذكرناه، وحكي عن مالك أيضًا.
وهذا قول عندي محمول على غير تأويله؛ لأن شريحًا لم يقل: أحق من اليمين فقط، إنما قيد الفاجرة خاصة، وليس في إقامة البينة بعد اليمين دليل فجورها؛ لأن الحق قد يكون للرجل على صاحبه بالبينة ثم يخرج إليه منه، وهم غيب عنه لا يشعرون بذلك، فيكونون إذا أقاموها قد شهدوا بحق فيكون المطلوب حالفًا على حق، وليس يعلم فجور اليمين إلا أن تقوم بينة على إقرار المطلوب بذلك الحق بعينه وإكذابه به تفسير بعد أن حلف بها، فالآن حين صح فجورها وجازت عليه الشهادة، وإياه أراد شريح فيما نرى بالمقالة السالفة، فالأمر عندي على هذا أنه لا بينة بعد اليمين ثم برهن له.
ثم إنهم جعلوا إباء اليمين إقرارًا، ولم يجعلوا أداءها براءة، وما أعلم ذا القول إلا حجة لمن ذهب إلى أن النكول لا يثبت حقًّا، وهو قول شنيع وينبغي أن يخبره في ذلك بين الصبر إلى حضورها أو يحلفه حالًا ولا يقبلها بعد، فيكون هو المختار لنفسه.
وأما الذي فسره ابن عيينة عن شريح، وخلاف ابن أبي ليلى إياه، فإنا نأخذ بهما معًا، وبه يأخذ أهل العراق.