أن العقول غير مستقلة بمصالحها، استجلابًا لها، أو مفاسدها، استدفاعًا لها. لأنها دنيوية أو أخروية ... فالعقل غير مستقل البتة. ولا ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق. ولا يمكن في أحوال الآخرة قبلهم أصل مسلم إلا من طريق الوحي ... فالابتداع مضاد لهذا الأصل، لأنه ليس مستند شرعي بالفرض، فلا يبقى إلا ما ادعوه من العقل.
فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها، ما رام تحصيله من جهتها، فصارت كالعبث.
والثاني: أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، لأن الله تعالى قال فيها {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} .. فإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله:
إن الشريعة لم تتم، وأنه بقى منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقدًا لكمالها وتمامها من كل وجه، لم يبتدع ولا استدرك عليها. وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون: سمعت مالكًا يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- خان الرسالة، لأن الله يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا.
والثالث: أن المبتدع معاند للشرع ومشاقٌ له، لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه خاصة، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهى والوعد والوعيد والخير أن الخير فيها، وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم، وأنه إنما أرسل الرسول -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين. فالمبتدع راد لهذا كله، فإنه يزعم أن ثم طرقا أخر، ليس ما حصره الشارع بمحصور، ولا ما عينه بمتعين،