ولم يفهم منها أحد من السلف والخلف إلا المجيء إليه في حياته ليستغفر لهم، وقد ذم تعالى من تخلف عن هذا المجيء إذا ظلم نفسه، وأخبر أنه من المنافقين؛ فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥)} [المنافقون: ٥]، وكذلك هذه الآية، إنما هي في المنافق الذي رضي بحكم كعب بن الأشرف، وغيره من الطواغيت، دون حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فظلم نفسه بهذا أعظم ظلم؛ ثم لم يجيء إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليستغفر له، فإن المجئ إليه ليستغفر له توبة، وتنصل من الذنب، وهذه كانت عادة الصحابة معه -صلى الله عليه وسلم-؛ أن أحدهم متى صدر منه ما يقتضي التوبة، جاء إليه فقال: يا رسول الله، فعلتُ كذا وكذا فاستغفر لي، وهذا كان فرقًا بينهم وبين المنافقين فلما استأثر الله عزَّ وجلَّ بنبيه -صلى الله عليه وسلم- ونقله من بين أظهرهم إلى دار كرامته، لم يكن أحد منهم قط يأتي إلى قبره، ويقول: يا رسول الله فعلت كذا وكذا فاستغفر لي، ومن نقل هذا عن أحد منهم، فقد جاهر بالكذب والبهت.
أفَتُرى عَطَّلَ الصحابةُ والتابعون -وهم خير القرون على الإطلاق- هذا الواجبَ الذي ذم الله سبحانه من تخلَّف عنه، وجعل التخلف عنه من أمارات النفاق، ووفق له من لا توبة له من الناس، ولا يعد في أهل العلم، فكيف أغفل هذا الأمر أئمة الإسلام، وهداة الأنام، من أهل الحديث والفقه والتفسير، ومن لهم لسان صدق في الأمة، فلم يدعو إليه، ولم يحضوا عليه، ولم يرشدوا إليه، ولم يفعله أحد منهم البتة، بل المنقول الثابت عنهم ما قد عرف مما يسوء الغلاة، فيما يكره وينهى عنه من الغلو والشرك الجفاة، عما يحبه ويأمر به من التوحيد والعبودية ولما كان هذا المنقول شجًا في حلوق الغلاة، وقذى في عيونهم، وريبة في قلوبهم، قابلوه بالتكذيب والطعن في الناقل، ومن استحى منهم من أهل العلم بالآثار، قابله بالتحريف والتبديل، ويأبى الله إلا أن يعلي منار الحق، ويظهر أدلته؛ ليهتدي المسترشد، وتقوم الحجة على المعاند.