ومما يدل على بطلان تأويله قطعًا، أنه لا يشك مسلم أن من دعي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته، وقد ظلم نفسه، ليستغفر له، فأعرض عن المجيء وأباه، مع قدرته عليه، كان مذمومًا غاية الذم، مغموصًا بالنفاق، وليس كذلك من دعي إلى قبره ليستغفر له، ومن سوى بين الأمرين، وبين المدعوين، وبين الدعوتين، فقد جاهر بالباطل، وقال على الله وكلامه ورسوله وأمناء دينه غير الحق.
وأما دلالة الآية على غير تأويله، فهو أنه سبحانه صدرها بقوله:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} وهذا يدل على أن مجيئهم إليه ليستغفر لهم إذ ظلموا أنفسهم، طاعة له؛ ولهذا ذم من تخلف عن هذه الطاعة ولم يقل مسلم قط أن على من ظلم نفسه بعد موته أن يذهب إلى قبره، ويسأله أن يستغفر له، ولو كان هذا طاعة لكان خير القرون قد عصوا هذه الطاعة وعطلوها، ووفق لها هؤلاء العصاة الغلاة، وهذا بخلاف قوله:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فإنه نفى الإيمان عمن لم يحكمه، وتحكيمه هو تحكيم ما جاء به حيًا وميتًا، ففي حياته كان هو الحكم بينهم بالوحي، وبعد وفاته نوابه وخلفاؤه، ويوضح ذلك أنه قال:"لا تجعلوا قبري عيدًا"، ولو كان يشرع لكل مذنب أن يأتي إلى قبره ليستغفر له، لكان القبر أعظم أعياد المذنبين، وهذا مضادة صريحة لدينه وما جاء به .. ، ولو كان مشروعًا لأمر به أمته وحضهم عليه، ورغبهم فيه، ولكان الصحابة وتابعوهم بإحسان أرغب شيء فيه، وأسبق إليه، ولم ينقل عن أحد منهم قط وهم القدوة بنوع من أنواع الأسانيد أنه جاء إلى قبره ليستغفر له، ولا شكا إليه ولا سأله، والذي صحّ عنه مجيء القبر هو ابن عمر وحده، إنما كان يجيء للتسليم عليه -صلى الله عليه وسلم- وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر، ولم يكن يزيد على التسليم شيئًا البتة" (١).