(٢) قلت: وإنما لم يسم الحافظ ابن عبد الهادي السنة التي وقع فيها ذلك لأنها لم ترد في رواية ثابتة على طريقة المحدثين، وما نقلناه عن ابن جرير هو من رواية الواقدي وهو متهم، ورواية ابن شبة الآتية في كلام الحافظ ابن عبد الهادي مدارها على مجاهيل، وهم عن مجهول كما هو ظاهر فلا حجة في شيء من ذلك وإنما العمدة على اتفاق المؤرخين على أن إدخال الحجرة إلى المسجد كان في ولاية الوليد وهذا القدر كاف في إثبات أن ذلك كان بعد موت الصحابة الذين كانوا في المدينة حسبما بينه الحافظ لكن يعكر عليه ما رواه أبو عبد الله الرازي في مشيخته (٢١٨/ ١) عن محمد بن الربيع الجيزي: «توفي سهل بن سعد بالمدينة هو ابن مائة سنة وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين وهو آخر من مات بالمدينة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.» لكن الجيزي هذا لم اعرفه ثم هو معضل وقد ذكر مثله الحافظ بن حجر في «الإصابة» (٢/ ٨٧) عن الزهري من قوله فهو معضل أيضا أو مرسل ثم عقبه بقوله: «وقيل قبل ذلك وزعم ابن أبي داود أنه مات بالإسكندرية» وجزم في «التقريب» أنه مات سنة ٨٨ فالله أعلم. وخلاصة القول أنه ليس لدينا نص تقوم به الحجة على أن أحدا من الصحابة كان في عهد عملية التغيير هذه، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل فما جاء في «شرح مسلم» (٥/ ١٣١٤) أن ذلك كان في عهد الصحابة لعل مستنده تلك الرواية المعضلة أو المرسلة وبمثلها لا تقوم حجة على أنها أخص من الدعوى فإنها لو صحت إنما تثبت وجود واحد من الصحابة حينذاك لا (الصحابة). وأما قول بعض من كتب في هذه المسألة بغير علم: «فمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ وسعه عثمان رضي الله عنه وأدخل في المسجد ما لم يكن منه، فصارت القبور الثلاثة محاطة بالمسجد لم ينكر أحد من السلف ذلك». فمن جهالاتهم التي لا حدود لها! - ولا أريد أن أقول: إنها من افتراءاتهم- فإن أحدا من العلماء لم يقل إن إدخال القبور الثلاثة كان في عهد عثمان رضي الله عنه، بل اتفقوا على أن ذلك كان في عهد الوليد بن عبد الملك كما سبق أي بعد عثمان بنحو نصف قرن ولكنهم يهرفون بما لا يعرفون. ذلك لأن عثمان رضي الله عنه فعل خلاف ما نسبوا إليه فإنه لما وسع المسجد النبوي الشريف احترز من الوقوع في مخالفة الأحاديث المشار إليها فلم يوسع المسجد من جهة الحجرات ولم يدخلها فيه وهذا عين ما صنعه سلفه عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا بل أشار هذا إلى أن التوسيع من الجهة المشار إليها فيه المحذور المذكور في الأحاديث المتقدمة كما سيأتي ذلك عنه قريبا وأما قولهم: «ولم ينكر أحد من السلف ذلك».
فنقول: وما أدراكم بذلك؟! فإن من أصعب الأشياء على العقلاء إثبات نفي شيء يمكن أن يقع ولم يعلم كما هو معروف عند العلماء لأن ذلك يستلزم الاستقراء التام والإحاطة بكل ما جرى، وما قيل حول الحادثة التي يتعلق بها الأمر المراد نفيه عنها، وأنى لمثل هذا البعض المشار إليه أن يفعلوا ذلك لو استطاعوا ولو أنهم راجعوا بعض الكتب لهذه المسألة لما وقعوا في تلك الجهالة الفاضحة ولو جدوا ما يحملهم على أن لا ينكروا ما لم يحيطوا بعلمه فقد قال الحافظ ابن كثير في تاريخه (٧٥ ج ٩) بعد أن ساق قصة إدخال القبر النبوي في المسجد: «ويحكي أن سعيد بن المسيب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً». وأنا لا يهمني كثيرا صحة هذه الرواية أو عدم صحتها لأننا لا نبني عليها حكما شرعيا لكن الظن بسعيد بن المسيب وغيره من العلماء الذين أدركوا ذلك التغيير أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار لمنافاته تلك الأحاديث المتقدمة منافاة بينة وخاصة منها رواية عائشة التي تقول: «فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا» فما خشي الصحابة رضي الله عنهم قد وقع- مع الأسف الشديد- بإدخال القبر في المسجد إذ لا فارق بين أن يكونوا دفنوه - صلى الله عليه وسلم - حين مات في المسجد- وحاشاهم عن ذلك- وبين ما فعله الذين بعدهم من إدخال قبره في المسجد بتوسيعه، فالمحذور حاصل على كل حال كما تقدم عن الحافظ العراقي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، ويؤيد هذا الظن أن سعيد بن المسيب أحد رواة الحديث الثاني كما سبق، فهل اللائق بمن يعترف بعلمه وفضله وجرأته في الحق أن يظن به أنه أنكر على من خالف الحديث الذي هو أحد رواته أم أن ينسب إليه عدم إنكاره ذلك كما زعم هؤلاء المشار إليهم حين قالوا «لم ينكر أحد من السلف ذلك»! والحقيقة أن قولهم هذا يتضمن طعنا ظاهراً- لو كانوا يعلمون- في جميع السلف، لأن إدخال القبر إلى المسجد منكر ظاهر عند كل من علم بتلك الأحاديث المتقدمة وبمعانيها ومن المحال أن ننسب إلى جميع السلف جهلهم بذلك، فهم، أو على الأقل بعضهم يعلم ذلك يقيناً، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من القول بأنهم أنكروا ذلك، ولو لم نقف فيه على نص لأن التاريخ لم يحفظ لنا كل ما وقع، فكيف يقال: إنهم لم ينكروا ذلك؟ اللهم غفراً. ومن جهالتهم قولهم عطفاً على قولهم السابق: «وكذا مسجد بني أمية دخله المسلمون دمشق من الصحابة وغيرهم والقبر ضمن المسجد لمن ينكر أحد ذلك». إن منطق هؤلاء عجيب غريب! إنهم ليتوهمون أن كل ما يشاهدونه الآن في مسجد بني أمية كان موجوداً في عهد منشئه الأول الوليد بن عبد الملك، فهل يقول بهذا عاقل؟ كلا لا يقول ذلك غير هؤلاء! ونحن نقطع ببطلان قولهم وأن أحدا من الصحابة والتابعين لم ير قبراً ظاهراً في مسجد بني أمية أو غيره، بل غاية ما جاء فيه بعض الروايات عن زيد بن أرقم بن واقد أنهم في أثناء العمليات وجدوا مغارة فيها صندوق فيه سفط (وعاء كالقفة) وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام مكتوب عليه: هذا رأس يحيى عليه السلام فأمر به الوليد فرد إلى المكان وقال: اجعلوا العمود الذي فوقه مغيرا من الأعمدة فجعل عليه عمود مسبك بسفط الرأس. رواه أبو الحسن الربعي في «فضائل الشام» (٣٣) ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخه» (ج ٢ ق ٩/ ١٠) وإسناده ضعيف جداً، فيه إبراهيم بن هشام الغساني كذبه أبو حاتم وأبو زرعة وقال الذهبي «متروك».ومع هذا فإننا نقطع أنه لم يكن في المسجد صورة قبر حتى أواخر القرن الثاني لما أخرجه الربعي وبن عساكر عن الوليد بن مسلم أنه سئل أين بلغك رأس يحيى بن زكريا؟ قال: بلغني أنه ثم وأشار بيده إلى العمود المسفط الرابع من الركن الشرقي، فهذا يدل على أنه لم يكن هناك قبر في عهد الوليد بن مسلم وقد توفي سنة أربع وتسعين ومائة. وأما كون ذلك الرأس هو رأس يحيى عليه السلام فلا يمكن أن إثباته، ولذلك اختلف المؤرخون اختلافا كثيراً، وجمهورهم على أن رأس يحيى عليه السلام مدفون في مسجد حلب ليس في مسجد دمشق كما حققه شيخنا في الإجازة العلامة محمد راغب الطباخ في بحث له نشره في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق (ج ١ ص ٤١ - ١٤٨٢) تحت عنوان «رأس يحيى ورأس زكريا» فليراجعه من شاء. ونحن لا يهمنا من الوجهة الشرعية ثبوت هذا أو ذاك، وسواء عندنا أكان الرأس الكريم في هذا المسجد أو ذاك، بل لو تيقنَّا عدم وجوده في كل من المسجدين فوجود صورة القبر فيهما كاف في المخالفة، لأن أحكام الشريعة المطهرة إنما تبنى عل الظاهر لا الباطن كما هو معروف، وسيأتي ما يشهد لهذا من كلام بعض العلماء، وأشد ما تكون المخالفة إذا كان القبر في قبلة المسجد، كما هو الحال في مسجد حلب ولا منكر لذلك من علمائها! واعلم أنه لا يجدي في رفع المخالفة أن القبر في المسجد ضمن مقصورة كما زعم مؤلفو الرسالة لأنه على كل حال ظاهر ومقصود من العامة وأشباههم من الخاصة بما لا يقصد به إلا الله تعالى؛ من التوجه إليه والاستغاثة به من دون الله تبارك وتعالى فظهور القبر هو سبب المحذور كما سيأتي عن النووي رحمه الله. وخلاصة الكلام أن قول من أشرنا إليهم أن قبر يحيى عليه السلام كان ضمن المسجد الأموي منذ دخل دمشق الصحابة وغيرهم لم ينكر ذلك أحد منهم إن هو إلا محض اختلاق!. [منه].