للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْمُتَأَمِّلُ فِيمَا سَطَّرَهُ يَرَاعُ هَذَا الإِمَامِ مِنَ الْمَسَائِلِ الفِقْهِيَّةِ الَّتِي ضَمَّنَهَا شَرْحَهُ لأَحَادِيثِ الجَامِعِ الصَّحِيحِ لِلْبُخَارِيِّ يَقِفُ أَمَامَ حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَهِيَ أَنَّهُ حَازَ قَصَبَ السَّبْقِ فِي عِلْمِ الفِقْهِ، يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ إِحَاطَتِهِ بِعِلْمِ الخِلَافِ الَّذِي جَعَلَهُ العُلَمَاءُ شَرْطًا لِلتَّصَدُّرِ لِلْفُتْيَا كَمَا قَالَ التَّابِعِيُّ الجَلِيلُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ (ت: ١١٤ هـ) : "لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ النَّاسَ حَتَّى يَكُونَ عَالِمًا بِاخْتِلَافِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ رَدَّ مِنَ العِلْمِ مَا هُوَ أَوْثَقُ مِنَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ" (١).

وَيُعَلِّلُ الإِمَامُ الشَّاطِبِيُّ (ت: ٧٩٠ هـ) لِهَذَا بِقَوْلِهِ: "وَبِإِحْكَامِ النَّظَرِ فِي هَذَا المَعْنَى يَتَرَشَّحُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يَبْلُغَ دَرَجَةَ الاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَصِيرًا بِمَوَاضِعِ الاخْتِلَافِ، جَدِيرًا بِأَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الحَقُّ فِي كُلِّ نَازِلَةٍ تَعْرِضُ لَهُ" (٢).

كَمَا أَبَانَ قِوَامُ السُّنَّةِ عَنْ مَوَاطِنِ الإِجْمَاعِ الَّتِي نَقَلَ فِيهَا اتِّفَاقَ الفُقَهَاءِ، كَيْلَا يَقَعَ اجْتِهَادُهُ شَاذًا، مُجَانِبًا لِمَا عَلَيْهِ عُلَمَاءُ المُسْلِمِينَ، وَكَشَفَ فِي شَرْحِهِ هَذَا عَنِ اطِّلَاعِ وَاسِعٌ عَلَى مَذَاهِبِ الأَقْدَمِينَ، وَالعِلْمِ بِأَقْوالِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ العُلَمَاءِ الأَخْيَارِ وَالْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ، مَعَ الإِشَارَةِ إِلَى مَدَارِكِهَا الغِزَارِ، وَاسْتِنْبَاطِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الفَوَائِدِ وَالنُّكَتِ النِّضَارِ.

وَلَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ وَعَرْضِهَا، بَلْ تَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَوْجِيهِهَا وَمُنَاقَشَتِهَا، مُعْمِلًا فِي ذَلِكَ قَوَاعِدَ عِلْم الأُصُولِ، وَالْمُزَاوَجَةِ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَاسْتَطَاعَ بِمَا وَهَبَه اللهُ تَعَالَى مِنْ سَعَةِ العِلْمِ وَكَفْرَةِ الْمَدَارِكِ


(١) أسنده عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (٢/ ٤٦)، وذَكَرَ آثَارًا أُخْرَى تُؤَكِّدُ هَذَا الْمَعْنى.
(٢) الموافقات (٥/ ١٢١).

<<  <  ج: ص:  >  >>