وَالْقَطْعُ بِهِ مُمْكِنٌ، وَمَنَعَ غَيْرُهُ ذَلِكَ الْإِمْكَانَ، لِأَنَّ غَايَةَ الْمُجْتَهِدِ بَعْدَ الِاسْتِقْصَاءِ الِاسْتِدْلَال بِعَدَمِ الْوِجْدَانِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُودِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إلَّا الظَّنُّ بِعَدَمِ الْوُجُودِ لَا الْقَطْعُ بِعَدَمِهِ، لِعَدَمِ انْضِبَاطِ الْأَدِلَّةِ، وَاحْتِمَالِ الشُّذُوذِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَكْفِي عَدَمُ وُجْدَانِ الْمُخَصِّصِ لِمُجْتَهِدٍ سَابِقٍ، وَلَا قَوْلُهُ، وَلَوْ كَانَ الْحُكْمُ خَاصًّا لَنَصَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ دَلِيلًا لِلْمُكَلَّفِينَ وَلْيَكْفِهِمْ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَرِيبٌ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّ الْمُعْتَقِدَ أَيْضًا لَا يُجَوِّزُ النَّقِيضَ وَإِلَّا لَكَانَ ظَانًّا، لَكِنْ يَفْتَرِقَانِ فِي أَنَّ الْمُعْتَقِدَ عَلَى الثَّالِثِ يَكُونُ مُصِيبًا فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْغَلَطُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْقَاضِي يَرَى أَنَّ الِاعْتِقَادَ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ لَا يَكُونُ مَطْلُوبًا فِي الشَّرِيعَةِ، قَالَهُ الْإِبْيَارِيُّ وَالْمُخْتَارُ وِفَاقًا لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَابْنِ سُرَيْجٍ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُحَقِّقِينَ الْأَوَّلُ، فَقَالَ: عَلَيْهِ تَحْصِيلُ عِلْمٍ أَوْ ظَنٍّ بِاسْتِقْصَاءِ الْبَحْثِ، أَمَّا الظَّنُّ فَبِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْقَطْعُ فَبِانْتِفَائِهِ فِي حَقِّهِ يَتَخَيَّرُ عَنْ نَفْسِهِ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ بَعْدَ بَذْلِ وُسْعِهِ، وَهَذَا الظَّنُّ بِالصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُخَابَرَةِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِصْحَابِ وَكُلُّ مَا هُوَ مَشْرُوطٌ بِنَفْيِ دَلِيلٍ آخَرَ.
وَيَجْتَمِعُ مِنْ كَلَامِ الْأَصْحَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ، فَقَدْ قَالَ: الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ كِلَاهُمَا فِي الْأَقْضِيَةِ: لَيْسَ لِزَمَانِ الِاجْتِهَادِ وَالنَّظَرِ وَقْتٌ مُقَدَّرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِمَا يُؤَدِّي الِاجْتِهَادُ إلَيْهِ مِنْ الرَّجَاءِ وَالْإِيَاسِ وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: لَيْسَ لِمُدَّةِ الْبَحْثِ زَمَنٌ مُحَدَّدٌ، وَلَكِنَّهَا مَعْقُولَةٌ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لَمْ يَجِدْ نَصًّا فِي الْحَادِثَةِ يَجْتَهِدْ حَتَّى يَجِدَ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي ذَلِكَ زَمَنٌ مُحَدَّدٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتْلُو آيَةً بِلَفْظٍ عَامٍّ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَوْعِبَهَا سَمَاعًا فَلَعَلَّهُ اسْتَثْنَى عَقِبَ الْكَلَامِ. فَإِذَا اسْتَوْعَبَهَا، وَلَمْ يَجِدْ فِيهَا اسْتِثْنَاءً وَلَا خُصُوصًا اعْتَقَدَ عُمُومَهَا، وَعَمِلَ بِمَا يُوجِبُهُ لَفْظُهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute