وَأَمَّا تَبْيِينُ فَسَادِ عِبَارَتِهِمْ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ الْخَبَرُ كَذِبًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ مِنْ الْخَبَرِ صِدْقٌ، كَمَا أَنَّ مِنْهُ كَذِبًا. نَعَمْ، اسْتِدْلَالُ الْإِمَامِ عَلَى أَنَّ مَدْلُولَهُ الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لَا ثُبُوتُهَا، بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْخَبَرِ بِكَذِبٍ، وَقَدْ مَنَعَ الْقَرَافِيُّ انْتِفَاءَ الْمُلَازَمَةِ، وَادَّعَى أَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَضَعْ الْخَبَرَ إلَّا لِلصِّدْقِ، وَسَبَقَ الرَّدُّ عَلَيْهِ.
[الْمَوْطِنُ الْخَامِسُ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ]
الْمَوْطِنُ الْخَامِسُ أَنَّ مَوْرِدَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ النِّسْبَةُ الَّتِي تَضَمَّنَهَا فَقَطْ لَا وَاحِدٌ مِنْ طَرَفَيْهَا. فَهُمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لَا إلَى صِفَتِهِ، فَإِذَا كَذَّبْت الْقَائِلَ فِي قَوْلِهِ: زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو كَرِيمٌ، فَإِنَّ التَّكْذِيبَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى كَوْنِهِ ابْنَ عَمْرٍو، بَلْ إلَى كَوْنِهِ كَرِيمًا؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ ثَابِتَةٌ حَالَ النَّفْيِ ثُبُوتَهَا حَالَ الْإِثْبَاتِ، وَلِأَنَّ عِلْمَ الْمُخَاطَبِ بِثُبُوتِ الصِّفَةِ لِلْمَوْصُوفِ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْمُتَكَلِّمِ إيَّاهَا لَهُ، وَأَنَّ الِاحْتِيَاجَ إلَى ذِكْرِهَا لِإِزَالَةِ اللَّبْسِ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ، وَإِلَّا فَلَا يَحْصُلُ التَّمْيِيزُ، وَإِذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً لِلْمُخَاطَبِ، فَلَا يَقْصِدُهَا الْمُتَكَلِّمُ بِإِخْبَارِهِ إيَّاهَا، وَالتَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إنَّمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى مَا يَقْصِدُهُ الْمُتَكَلِّمُ لَا إلَى مَا لَا يَقْصِدُهُ، فَإِذَا قِيلَ: قَامَ زَيْدٌ، فَقِيلَ: صِدْقٌ أَوْ كَذِبٌ، انْصَرَفَ ذَلِكَ إلَى قِيَامِ زَيْدٍ، لَا إلَى ذَلِكَ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالْقِيَامِ، هَلْ اسْمُهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ هَذَا فِيمَا لَوْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي اسْمِهِ، فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّك حَاكِمٌ بِأَنَّ ذَلِكَ اسْمُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ اُسْتُشْكِلَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: ٣٠] بِإِسْقَاطِ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّ الِابْنَ صِفَةٌ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ حِينَئِذٍ هُوَ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ، أَوْ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ إلَهُنَا، إمَّا بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ أَوْ الْخَبَرِ، وَهُوَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخْبَرَ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَوْصُوفٍ، أَوْ عَنْ مَوْصُوفٍ غَيْرِ الْمُبْتَدَأِ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَنْصَرِفُ إلَى الْخَبَرِ، وَتَبْقَى الصِّفَةُ عَلَى أَصْلِ الثُّبُوتِ، فَحِينَئِذٍ يَبْقَى كَوْنُهُ ابْنًا لِلَّهِ ثَابِتًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute