أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: افْعَلْ، فَقَالَ: أَمَرْته بِكَذَا وَلَمْ يَعْلَمْ مُرَادَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ أَمْرٌ بِصِيغَتِهِ فَقَطْ. انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْحَقُّ أَنَّ الْأَمْرَ يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ الدِّينِيَّةَ وَلَا يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ الْكَوْنِيَّةَ، فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِمَا يُرِيدُهُ شَرْعًا وَدِينًا، وَقَدْ يَأْمُرُ بِمَا لَا يُرِيدُهُ كَوْنًا وَقَدَرًا كَإِيمَانِ مَنْ أَمَرَهُ بِالْإِيمَانِ وَلَمْ يُؤْمِنْ، وَأَمَرَ خَلِيلَهُ بِالذَّبْحِ وَلَمْ يَذْبَحْ، وَأَمَرَ رَسُولَهُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً وَلَمْ يُصَلِّ، وَفَائِدَتُهُ الْعَزْمُ عَلَى الِامْتِثَالِ، وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَيْهِ. وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ عَلَى التَّغَايُرِ بِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ زَيْدًا دَيْنَهُ غَدًا، وَقَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يَقْضِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ، فَلَوْ كَانَ - تَعَالَى - قَدْ شَاءَ [لِمَا] أَمَرَهُ بِهِ وَجَبَ أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا كَانَ حَالًّا وَصَاحِبُهُ يَطْلُبُهُ، فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا فَقَدْ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْوَفَاءِ فِي غَدٍ إذَا لَمْ يَكُنْ غَدًا مَحَلَّ الْأَجَلِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ حَالًّا وَصَاحِبُهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ فَفِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ عَلَى الْفَوْرِ وَجْهَانِ لِإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ. ثُمَّ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ الَّتِي هِيَ مَدْلُولُ الْأَمْرِ حَتَّى يَحْنَثَ لِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ بَلْ هُوَ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمَشِيئَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا الْأَمْرُ، فَإِنْ صُرِّحَ بِتَعْلِيقِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَشِيئَةِ مَنَعْنَا حُكْمَ الْمَسْأَلَةِ.
[الثَّالِثَةُ الْأَمْرَ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ النَّفْسِيِّ مَجَازٌ فِي الْعِبَادَةِ]
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَمْرَ هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي ذَلِكَ الطَّلَبِ النَّفْسِيِّ مَجَازٌ فِي الْعِبَادَةِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَوْ بِالْعَكْسِ أَوْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا؟ أَقُولُ، كَالْخِلَافِ فِي سَائِرِ أَقْسَامِ الْكَلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا غَيْرُ الْخِلَافِ السَّابِقِ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ هَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ؟ فَإِنَّهُ هُنَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مَعَ الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ كَلَامِ النَّفْسِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute