[فَصْلٌ فِي وَظِيفَةِ الْمُجْتَهِدِ إذَا عَرَضَتْ لَهُ وَاقِعَةٌ]
ٌ اعْلَمْ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَطْلُبَ لِنَفْسِهِ أَقْوَى الْحُجَجِ عِنْدَ اللَّهِ مَا وَجَدَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، لِأَنَّ الْحُجَّةَ كُلَّمَا قَوِيَتْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الزَّلَلِ. وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ ": " وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَعْلَى " وَقَالَ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": إذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ فِيهِ فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى نُصُوصِ الْكِتَابِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ فَعَلَى الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ ثُمَّ الْآحَادِ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ لَمْ يُخَضْ فِي الْقِيَاسِ، بَلْ يَلْتَفِتُ إلَى ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ، فَإِنْ وَجَدَ ظَاهِرًا نَظَرَ فِي الْمُخَصِّصَاتِ مِنْ قِيَاسٍ وَخَبَرٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُخَصِّصًا حَكَمَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْثُرْ عَلَى ظَاهِرٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ نَظَرَ إلَى الْمَذَاهِبِ، فَإِنْ وَجَدَهَا مُجْمَعًا عَلَيْهَا اتَّبَعَ الْإِجْمَاعَ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إجْمَاعًا خَاضَ فِي الْقِيَاسِ. وَيُلَاحِظُ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ أَوَّلًا، وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ، كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثَقِّلِ، فَيُقَدِّمُ قَاعِدَةَ الرَّدْعِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَلَمِ، فَإِنْ عَدِمَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً نَظَرَ فِي النُّصُوصِ وَمَوَاقِعِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ وَجَدَهَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ أَلْحَقَ بِهِ، وَإِلَّا انْحَدَرَ إلَى قِيَاسٍ مُخَيَّلٍ، فَإِنْ أَعْوَزَهُ تَمَسَّكَ بِالشَّبَهِ وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى طَرْدٍ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: هَذَا تَدْرِيجُ النَّظَرِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ، وَلَقَدْ أَخَّرَ الْإِجْمَاعَ عَنْ ذَلِكَ الْأَخْبَارُ، وَذَلِكَ تَأْخِيرُ مَرْتَبَةٍ لَا تَأْخِيرُ عَمَلٍ، إذْ الْعَمَلُ بِهِ مُقَدَّمٌ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُقَدَّمٌ فِي الْمَرْتَبَةِ، فَإِنَّهُ مُسْتَنَدُ قَبُولِ الْإِجْمَاعِ. وَخَالَفَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ: الصَّحِيحُ أَنَّ نَظَرَهُ فِي الْإِجْمَاعِ يَكُونُ أَوَّلًا، إذْ النُّصُوصُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَنْسُوخَةً، وَلَا كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الشَّافِعِيُّ النَّصَّ عَلَى الظَّاهِرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٌ مَا هُوَ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute