الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بَعْدَ ذِكْرِ نَسْخِ التَّوَجُّهِ لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ: وَهَذَا مَعَ إبَانَتِهِ لَك أَنَّ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَنَّ سُنَّةً حَوَّلَهُ اللَّهُ عَنْهَا إلَى سُنَنٍ أُخْرَى غَيْرِهَا يَصِيرُ إلَيْهَا النَّاسُ بَعْدَ الَّتِي حَوَّلَ عَنْهَا، لِئَلَّا يَذْهَبَ عَلَى عَامَّتِهِمْ النَّاسِخُ، فَيَثْبُتُونَ عَلَى الْمَنْسُوخِ، وَلِئَلَّا يَشْتَبِهَ عَلَى أَحَدٍ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسُنُّ، فَيَكُونُ فِي الْكِتَابِ شَيْءٌ يَرَى بَعْضُ مَنْ جَهِلَ اللِّسَانَ أَوْ الْعِلْمَ بِمَوْقِعِ السُّنَّةِ مَعَ الْكِتَابِ بِمَعَانِيهِ أَنَّ الْكِتَابَ يَنْسَخُ السُّنَّةَ. اهـ. كَلَامُهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرَادَهُ، بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْجَمَاهِيرِ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ قَدْ يَقَعُ بِلَا بَدَلٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الصَّيْرَفِيُّ فِي " شَرْحِ الرِّسَالَةِ "، وَأَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ فِي كِتَابِ " النَّاسِخِ " أَنَّهُ يُنْقَلُ مِنْ حَظْرٍ إلَى إبَاحَةٍ، أَوْ إبَاحَةٍ إلَى حَظْرٍ، أَوْ يَجْرِي عَلَى حَسَبِ أَحْوَالِ الْمَفْرُوضِ. وَمَثَّلَهُ بِالْمُنَاجَاةِ. وَكَانَ يُنَاجَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا تَقْدِيمِ صَدَقَةٍ، ثُمَّ فَرَضَ اللَّهُ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ، ثُمَّ أَزَالَ ذَلِكَ، فَرَدَّهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ شَاءُوا تَقَرَّبُوا بِالصَّدَقَةِ إلَى اللَّهِ، وَإِنْ شَاءُوا نَاجَوْهُ مِنْ غَيْرِ صَدَقَةٍ. قَالَ: فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فَرْضٌ مَكَانَ فَرْضٍ فَتَفْهَمُهُ. اهـ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ يُنْقَلُونَ مِنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ إلَى مِثْلِهِ، وَلَا يُتْرَكُونَ غَيْرَ مَحْكُومٍ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ. وَهَذَا صَحِيحٌ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَنْسُوخٍ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: مَعْنَى قَوْلِنَا: لَا يُنْسَخُ الشَّيْءُ إلَّا بِمِثْلِهِ، يَعْنِي مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ النَّاسِخِ، كَالنَّقْلِ مِنْ الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ، أَوْ مِنْ الْفَرْضِ إلَى النَّدْبِ أَوْ إلَى الْفَرْضِ، فَأَمَّا إنْ أُرِيدَ إسْقَاطُهُ فَنَسْخُهُ إمَّا أَنْ يُنْسَخَ بِرَسْمٍ مَعَ ثُبُوتِ الرَّسْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِقَرَارِ رَسْمِهِ، وَإِمَّا بِرَفْعِ رَسْمِهِ مَعَ حُكْمِهِ بِأَنْ يُنْسَى، فَيَسْتَغْنِي بِذَلِكَ عَنْ رَسْمٍ يُرْفَعُ بِهِ كَسُورَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute