، وَزَعَمَ الْهِنْدِيُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ قَالَ بِالْوُقُوعِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ حَكَى الْقَاضِي قَوْلًا أَنَّهُ جَائِزٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ.
وَذَكَرَ ابْنُ بَرْهَانٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ نَقَلَ الْمَنْعَ عَنْ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَكَذَا حَكَاهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ. قُلْت: كَأَنَّ مُسْتَنَدَ النَّقْلِ عَنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي " الرِّسَالَةِ ": إنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ أَثْبَتَهَا، وَأُخْرَى نَسَخَهَا رَحْمَةً وَتَخْفِيفًا لِعِبَادِهِ. هَذَا لَفْظُهُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا كَمَا قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ النَّاسِخَ يَكُونُ أَخَفَّ مِنْ الْمَنْسُوخِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ النَّسْخَ رَحْمَةً وَتَخْفِيفًا، وَمَا نُسِخَ بِأَغْلَظَ مِنْهُ كَانَ تَشْدِيدًا لَا تَخْفِيفًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَمْ يُرِدْ بِهِ جَمِيعَ أَنْوَاعِ النَّسْخِ، بَلْ الْبَعْضَ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَكَلَامُ الشَّافِعِيِّ مُخَرَّجٌ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَطْلَقَ اللَّفْظَ عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ النَّسْخِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ، نَقْلٌ مِنْ تَغْلِيظٍ إلَى تَخْفِيفٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْفَرَائِضَ، وَأَرَادَ مَا لَمْ يَلْزَمْ إثْبَاتُهُ مِنْ الْفَرَائِضِ، فَأُسْقِطَ.
قُلْت: وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ مُطْلَقًا هُوَ الْأَشْبَهُ. وَقَدْ قَالَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ شَيْءٌ نَقْطَعُ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إلَى وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي النَّسْخِ. وَالصَّحِيحُ: الْجَوَازُ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لِلِابْتِلَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَصْلَحَةٍ تَارَةً فِي النَّقْلِ إلَى مَا هُوَ أَخَفُّ وَتَارَةً أُشَقُّ.
الثَّالِثُ: نَسْخُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ بِتَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى النَّسْخِ بِالْأَثْقَلِ، كَاَلَّذِي كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ التَّخْيِيرِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ بِالْفِدْيَةِ وَالصِّيَامِ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: ١٨٤] الْآيَةَ. ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: ١٨٥] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute