للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْإِجْمَاعَ دَلِيلًا عَلَى تَعْيِينِ النَّصِّ لِلنَّسْخِ، بَلْ جَعَلَهُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ النَّسْخِ وَالْغَلَطِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ: فَإِنْ أُجْمِعَ عَلَى إبْطَالِ حُكْمِ أَحَدِهِمَا فَهُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ غَلَطٌ، وَالْأَمْرُ ثَابِتٌ. انْتَهَى.

وَمَعْنَى قَوْلِهِ: أَوْ غَلَطٌ، أَيْ مِنْ جِهَةِ بَعْضِ رُوَاتِهِ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: إذَا رُوِيَ حَدِيثٌ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ مَنْسُوخٌ أَوْ غَلَطٌ مِنْ الرَّاوِي. هَذَا لَفْظُهُ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بَعْدَ الرَّسُولِ، وَبَعْدَهُ يَرْتَفِعُ النَّسْخُ، وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُرْفَعُ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَعَلَى هَذَا يُنَزَّلُ نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ.

الْخَامِسُ: نَقْلُ الرَّاوِي الصَّحَابِيِّ تَقَدُّمَ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَتَأَخُّرَ الْآخَرِ، إذْ لَا مَدْخَلَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ، كَمَا لَوْ رُوِيَ أَنَّ أَحَدَهُمَا شُرِعَ بِمَكَّةَ، وَالْآخَرَ بِالْمَدِينَةِ، أَوْ أَحَدَهُمَا عَامَ بَدْرٍ وَالْآخَرَ عَامَ الْفَتْحِ، فَإِنْ وُجِدَ مِثَالُ هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ، كَقَوْلِ جَابِرٍ: «كَانَ آخِرُ الْأَمْرَيْنِ تَرْكَ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ» ، وَكَقَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: كَانَ «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» رُخْصَةً فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْغُسْلِ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ وَاضِحٌ إنْ كَانَ الْخَبَرَانِ غَيْرَ مُتَوَاتِرَيْنِ، أَمَّا إذَا قَالَ فِي أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَوَاتِرَيْنِ: إنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْآخَرِ، فَفِي قَوْلِهِ خِلَافٌ، وَجَزَمَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " بِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. وَنَقَلَهُ الْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ نَسْخَ الْمُتَوَاتِرِ بِالْآحَادِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ: يُقْبَلُ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ الْمَظْنُونُ فِي نَسْخِ الْعُلُومِ، إذْ الشَّيْءُ يُقْبَلُ بِطَرِيقِ الضِّمْنِ وَالتَّبَعِ، وَلَا يُقْبَلُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، كَمَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ بِالْوِلَادَةِ، وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ ثُبُوتَ النَّسَبِ وَإِنْ كُنَّ لَوْ شَهِدْنَ بِالنَّسَبِ ابْتِدَاءً لَمْ يُقْبَلْ.

وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ: هَذَا يَقْتَضِي الْجَوَازَ الْعَقْلِيَّ فِي قَبُولِهِ لَا فِي وُقُوعِهِ، مَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ ثُبُوتُ الْآخَرِ، وَالْجَوَازُ الْعَقْلِيُّ لَا نِزَاعَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": لَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ النَّسْخِ

<<  <  ج: ص:  >  >>