وَأَمَّا بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالْإِرْسَالِ بِالْمُعْجِزَةِ، فَقَدْ دَلَّتْ الْمُعْجِزَةُ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى صِدْقِهِ، وَهَلْ دَلَالَتُهَا عَقْلِيَّةٌ أَوْ عَادِيَةٌ؟ خِلَافٌ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ. فَكُلُّ أَمْرٍ يُنَافِي دَلَالَتَهَا فَهُوَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مُحَالٌ عَقْلًا. وَالْكَلَامُ فِي الْعِصْمَةِ يَرْجِعُ إلَى أُمُورٍ. أَحَدُهَا: فِي الِاعْتِقَادِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي وُجُوبِ عِصْمَتِهِمْ عَمَّا يُنَاقِضُ مَدْلُولَ الْمُعْجِزَةِ، وَهُوَ الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْكُفْرُ بِهِ. وَثَانِيهَا: أَمْرُ التَّبْلِيغِ، وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى اسْتِحَالَةِ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ فِيهِ. وَثَالِثُهَا: فِي الْأَحْكَامِ وَالْفَتْوَى، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عِصْمَتِهِمْ فِيهَا وَلَوْ فِي حَالِ الْغَضَبِ، بَلْ يُسْتَدَلُّ بِشِدَّةِ غَضَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ. وَرَابِعُهَا: فِي أَفْعَالِهِمْ وَسِيَرِهِمْ، فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَحَكَى الْقَاضِي إجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا عَلَى عِصْمَتِهِمْ فِيهَا، وَيَلْحَقُ بِهَا مَا يُزْرِي بِمَنَاصِبِهِمْ كَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَالدَّنَاءَاتِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الطَّرِيقِ، هَلْ هُوَ الشَّرْعُ أَوْ الْعَقْلُ؟ فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ أَئِمَّتِنَا: يَسْتَحِيلُ وُقُوعُهَا مِنْهُمْ عَقْلًا؛ لِأَنَّهَا مُنَفِّرَةٌ عَنْ الِاتِّبَاعِ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ عَنْ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ. قَالَ: وَإِلَيْهِ مَصِيرُ جَمَاهِيرِ أَئِمَّتِنَا. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مِنْ مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: إنَّهَا مُمْتَنِعَةٌ سَمْعًا، وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ رَدَدْنَا إلَى الْعَقْلِ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُهَا وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَالْغَزَالِيُّ وَإِلْكِيَا، وَابْنُ بَرْهَانٍ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: إنَّهُ الْمُسْتَقِيمُ عَلَى أُصُولِنَا. وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: إنَّهُ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُهُ، وَجَعَلَ الْهِنْدِيُّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا لَمْ يُسْنِدْهُ إلَى الْمُعْجِزَةِ فِي التَّحَدِّي، فَإِنْ أَسْنَدَهُ إلَيْهَا كَانَ امْتِنَاعُهُ عَقْلًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute