مُفْضِيَةٍ إلَيْهِ مَعَ أَنَّ الْوَاسِطَةَ حَاضِرَةٌ فِي الذِّهْنِ، وَلَيْسَ ضَرُورِيًّا بِمَعْنَى أَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ، كَقَوْلِنَا: الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ مُحْدَثًا، وَالْمَوْجُودُ لَا يَكُونُ مَعْدُومًا، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُصُولِ مُقَدِّمَتَيْنِ فِي النَّفْسِ: عَدَمُ اجْتِمَاعِ هَذَا الْجَمْعِ عَلَى الْكَذِبِ، وَاتِّفَاقُهُمْ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ يَقْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ قَدْ كَثُرَ الطَّاعِنُ عَلَى قَوْلِ الْكَعْبِيِّ إنَّهُ نَظَرِيٌّ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ تَنْزِيلُ مَذْهَبِهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ عَلَى النَّظَرِ فِي ثُبُوتِ أَمَارَاتٍ جَامِعَةٍ وَانْتِفَائِهَا، فَلَمْ يَعْنِ الرَّجُلُ نَظَرًا عَقْلِيًّا، وَفِكْرًا سَبْرِيًّا عَلَى مُقَدِّمَاتٍ وَنَتَائِجَ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ إلَّا الْحَقَّ، وَتَبِعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَإِذَا تَبَيَّنَ تَوَارُدُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَتِلْمِيذِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَتَنْزِيلُ مَذْهَبِ الْكَعْبِيِّ عَلَيْهِ، لَمْ يَبْقَ خِلَافٌ. وَقَالَ إلْكِيَا: مَا ذَكَرَهُ الْكَعْبِيُّ يَرْجِعُ إلَى سَبَبِ الْعِلْمِ، يَعْنِي أَنَّ الْعِلْمَ لَمْ يَحْصُلْ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي هَذَا، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْخَبَرَ إذَا حَصَلَ بِشَرَائِطِهِ هَلْ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَعْبِيَّ لَا يُجَوِّزُ أَنْ يُخَالَفَ فِي هَذَا، فَإِنَّا نَرَى الْعِلْمَ يَحْصُلُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ، وَإِلَّا فَالْكَعْبِيُّ لَا يُنْكِرُ الْمَحْسُوسَ وَيَقُولُ: لَمْ أَعْلَمْ الْبِلَادَ الْغَائِبَةَ إلَّا بِالنَّظَرِ، وَمَا كَانَ ضَرُورِيًّا يُعْلَمُ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْبِطُ النَّظَرَ.
قَالَ: وَقَاضِينَا أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: أَعْلَمُ أَنَّ الْعِلْمَ ضَرُورَةٌ، وَأَعْلَمُ بِالنَّظَرِ أَنَّهُ ضَرُورِيٌّ، فَجَعْلُ الْعِلْمِ بِهِ بِالنَّظَرِ يُدْرَكُ، وَالْمَعْلُومُ الثَّانِي وَهُوَ صِدْقُ الْمُخْبِرِينَ مُدْرَكًا بِالنَّظَرِ وَوَجْهُ النَّظَرِ تَيْسِيرُ مَدَارِكِ الْبَحْثِ الَّذِي يَظُنُّ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ يَتَطَرَّقُ مِنْهُ إلَى الْعِلْمِ، وَإِذَنْ بَطَلَ تَعَيُّنُ كَوْنِهِ مُدْرَكًا بِالضَّرُورَةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْعِلْمِ بِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، فَبَطَلَ مَا رَآهُ الْقَاضِي، وَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْكَعْبِيَّ إنَّمَا ادَّعَى النَّظَرَ فِي السَّبَبِ الْأَوَّلِ، لَا فِي الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِينَ. اهـ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute