خَصْمًا يُطَالِبُ بِالْعَدَالَةِ، فَجَازَ لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ إذَا تَرَكَ الْخَصْمُ حَقَّهُ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ كَمَا قُلْنَا بِالِاتِّفَاقِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ.
وَوَافَقَ الْحَنَفِيَّةَ مِنَّا الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ، كَمَا رَأَيْت، نَقَلَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَكَذَا وَافَقَهُمْ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِ " التَّقْرِيبِ "، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّ الْإِخْبَارَ مَبْنِيٌّ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِالرَّاوِي، وَلِأَنَّ رِوَايَةَ الْأَخْبَارِ تَكُونُ عِنْدَ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ فِي الْبَاطِنِ، فَاقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ، وَيُفَارِقُ الشَّهَادَةَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَاعْتُبِرَ فِيهَا الْعَدَالَةُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ فِي غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الرُّوَاةِ الَّذِينَ تَقَادَمَ الْعَهْدُ بِهِمْ، وَتَعَذَّرَتْ الْخِبْرَةُ الْبَاطِنَةُ بِهِمْ، وَإِلَى نَحْوِهِ مَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِيمَنْ عُرِفَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ، وَسَنَذْكُرُهُ. قُلْت: وَذَكَرَ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ قَيَّدُوا مَا سَبَقَ عَنْهُمْ بِصَدْرِ الْإِسْلَامِ، حَيْثُ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْعَدَالَةُ، وَأَمَّا الْمَسْتُورُ فِي زَمَانِنَا فَلَا يُقْبَلُ لِكَثْرَةِ الْفَسَادِ وَقِلَّةِ الرَّشَادِ، وَإِنَّمَا كَانَ يُقْبَلُ فِي زَمَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ ": الْمَجْهُولُ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ نَقَلَ عَنْهُ السَّلَفُ، وَعَمِلُوا بِهِ أَوْ سَكَتُوا عَنْ رَدِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَيُعْمَلْ بِهِ مَا لَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ. انْتَهَى.
وَهَذَا تَفْصِيلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ جَرَتْ عَادَةُ ابْنِ حِبَّانَ فِي كِتَابِ " الثِّقَاتِ " أَنْ يُوَثِّقَ مَنْ كَانَ فِي الطَّبَقَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ التَّابِعِينَ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: اسْتَقْرَيْت ذَلِكَ مِنْهُ لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ عَلَى ذَلِكَ الْعَصْرِ، مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ مَا يَقْتَضِي التَّضْعِيفَ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute