فِي مُنَاظَرَةٍ جَرَتْ لِابْنِ سُرَيْجٍ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد إذْ قَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنْتَ تَلْزَمُ الظَّاهِرَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧] فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّتَيْنِ؟ فَقَالَ مُجِيبًا: الذَّرَّتَانِ ذَرَّةٌ وَذَرَّةٌ فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَوْ عَمِلَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَنِصْفٍ فَتَبَلَّدَ وَظَهَرَ انْقِطَاعُهُ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: لَا يُسَمَّى هَذَا قِيَاسًا.
قُلْت: لِأَنَّ الْعَرَبَ وَضَعَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ بِاللَّفْظِ، وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ " مَفْهُومُ الْخِطَابِ " وَقِيلَ " فَحْوَى الْخِطَابِ ".
قَالُوا: وَالْقِيَاسُ مَا خَفِيَ حُكْمُ الْمَنْطُوقِ عَنْهُ حَتَّى عُرِفَ بِالِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَمَا خَرَجَ عَنْ الْخَفَاءِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلَيْسَ بِقِيَاسٍ. وَقَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: لَيْسَ بِقِيَاسٍ بَلْ نَصٌّ. وَقِيلَ: تَنْبِيهٌ وَضَعْفٌ، لِأَنَّ النَّصَّ مَا عُرِفَ " حُكْمُ مَرَاتِبِهِ " وَالْقِيَاسُ مَا عُرِفَ حُكْمُهُ مِنْ اسْمِ غَيْرِهِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ لِأَنَّ اسْمَ التَّأْفِيفِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَى الضَّرْبِ كَمَا لَا يَنْطَلِقُ اسْمُ الضَّرْبِ عَلَى التَّأْفِيفِ، فَتَحْرِيمُ الضَّرْبِ مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى التَّأْفِيفِ لَا مِنْ اسْمِهِ، فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا فَقَدْ خَالَفُوا فِي الِاسْمِ، فَاخْتِلَافُ الْأَسْمَاءِ فِي الْوُضُوحِ وَالْغُمُوضِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهَا نُصُوصًا، فَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي فِي الْخَفَاءِ، وَالْجَلَاءُ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ قِيَاسًا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مِنْ الْقِيَاسِ أَقْرَبُ وُجُوهِهِ إلَى النُّصُوصِ لِدُخُولِ فَرْعِهَا فِي النَّصِّ.
الثَّانِي: مَا عُرِفَ مَعْنَاهُ مِنْ ظَاهِرِ النَّصِّ بِغَيْرِ اسْتِدْلَالٍ، كَالنَّهْيِ عَنْ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ وَالْعَمْيَاءِ وَالْعَرْجَاءِ، فَالْعَمْيَاءُ أَوْلَى قِيَاسًا عَلَى الْعَوْرَاءِ، وَالْقَطْعَاءُ عَلَى الْعَرْجَاءِ، لِأَنَّ نَقْصَهَا أَكْثَرُ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ التَّعَبُّدَ بِخِلَافِ أَصْلِهِ، وَإِنْ جَازَ التَّعَبُّدُ بِإِبَاحَةِ الْعَمْيَاءِ وَالْقَطْعَاءِ مَعَ تَحْرِيمِ الْعَرْجَاءِ وَالْعَوْرَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute