وَنَقَلَ عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ مُتَأَخِّرِي زَمَانِهِ إنْكَارَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لِضِدَّيْنِ، فَإِنْ خَصُّوهُ بِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فَهُوَ قَوْلٌ آخَرُ، وَقَدْ صَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ، فَقَالَ: يَمْتَنِعُ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَقَطْ لِخُلُوِّهِ عَنْ الْفَائِدَةِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ " التَّحْصِيلِ " بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالنِّسْبَةِ إلَى وَاضِعٍ وَاحِدٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُرَادُ الْإِمَامِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْعَبَثِ بِالنِّسْبَةِ إلَى فَاعِلَيْنِ لَا يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِ أَحَدِهِمَا عِلْمُ الْآخَرُ بِهِ.
وَقِيلَ: يَمْتَنِعُ فِي اللُّغَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ وَاضِعٍ وَاحِدٍ، وَيَجُوزُ فِي لُغَتَيْنِ مِنْ وَاضِعَيْنِ. حَكَاهُ الصَّفَّارُ فِي " شَرْحِ سِيبَوَيْهِ ". وَقَالَ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ ": مَذْهَبُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّ الْمُشْتَرَكَ أَصْلٌ فِي الْوَضْعِ وَالْمُتَعَيِّنُ كَالْمُتَبَايِنِ وَالْمُتَرَادِفِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَبَايِنَةِ أَوْ الْمُتَرَادِفَةِ فِي حَقِّ الْوَضْعِ، وَالتَّعَيُّنُ كَالْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ، فَتَحَصَّلْنَا عَلَى تِسْعَةِ مَذَاهِبَ.
وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْقَوْلَ بِالْوُجُوبِ، وَقَالَ: لَيْسَ إلَّا قَوْلَانِ الْوُقُوعُ وَعَدَمُهُ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ هَاهُنَا هُوَ الْوُجُوبُ بِالْغَيْرِ، إذْ لَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ بِالذَّاتِ، وَالْمُمْكِنُ الْوَاقِعُ هُوَ الْوُجُوبُ بِالْغَيْرِ. اهـ.
وَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ مَنْقُولٌ، وَقَوْلُ الْوُجُوبِ كَمَا قَالَهُ شَارِحُ " الْمَحْصُولِ ": إنَّ الْحَاجَةَ الْعَامَّةَ اقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ فِي اللُّغَاتِ، وَقَوْلُ الْوُقُوعِ مَعَ الْإِمْكَانِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمْ تَقْتَضِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ اتِّفَاقًا مَعَ إمْكَانِهِ كَوُقُوعِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ.
وَالْمُخْتَارُ: جَوَازُهُ عَقْلًا وَوُقُوعُهُ سَمْعًا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute