ومنشأ هذا الغلو ينشأ من فهم هذا الحديث بمعنًى واسع أكثر مما يدل عليه الحديث بتمامه؛ لأن هذا الحديث يمكن تمريره وتفسيره بأحد معنيين:
الأول: لا تطروني: لا تبالغوا في مدحي، وهذا مفهوم عنده، ولكن لا تبالغوا، فهذا هو المعنى الأول.
المعنى الآخر، وهو الذي يبدو لي: أنه ينهى أمته أيضًا من باب سد الذريعة أن يمدحوه عليه الصلاة والسلام بشيء من عند أنفسهم خشية أن ينحرف بهم المدح عن العدل وعن كلمة الحق، هذا المعنى هو الذي سيترجح عندي أولًا بالنظر إلى تمام الحديث حيث قال:«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم» وكأن سائلًا سيسأل: فماذا وكيف نقول وكيف نمدح؟ فأجاب الرسول عليه السلام كما هي عادته ولا غرابة في ذلك، فإنه كما قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(النجم: ٣ - ٤)«لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد-إذًا-فقولوا: عبد الله ورسوله» لا تزيدوا في مدحي على ما مدحني ربي تبارك وتعالى، وليس المعنى إذًا: لا تبالغوا وإنما لا تمدحوا إلا بما جاء في الكتاب والسنة.
والذي جعلني أميل إلى هذا المعنى الثاني هو أن علماء الحديث ذكروا هذا الحديث في باب: تواضع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، [وإذا أخذنا] الحديث بالمعنى الأول لم يتفق الحديث مع الترجمة ولم يترجم الباب لهذا الحديث؛ لأنه أن يُقال ... لا تبالغ في مدحي فهذا واجب، بينما الباب تواضع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي يليق بهذا التواضع إنما هو أن يقول عليه الصلاة والسلام: لا تمدحوني ولا تقولوا شيئًا إلا عبد الله ورسوله؛ لأن الله عز وجل هكذا وصفه عليه الصلاة والسلام.