للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما اعتقدت القدرية أن الأولى (الاستطاعة قبل الفعل) كافية في حصول الفعل وأن العبد يحدث مشيئته جعله مستغنياً عن الله حين الفعل، كما أن الجبرية لما اعتقدت أن الثانية موجبة للفعل وهي من غيره رأوه مجبوراً على الفعل وكلاهما خطأ قبيح؛ فإن العبد له مشيئة وهي تابعة لمشيئة الله كما ذكر الله ذلك في عدة مواضع من كتابه.

فإذا كان الله قد جعل العبد مريداً مختاراً شائياً امتنع أن يقال: هو مجبور مقهور مع كونه قد جعله مريداً، وامتنع أن يكون هو الذي ابتدع لنفسه المشيئة فإذا قيل: هو مجبور على أن يختار، مضطر إلى أن يشاء، فهذا لا نظير له وليس هو المفهوم من الجبر بالاضطرار ولا يقدر على ذلك إلا الله.

ولهذا افترق القدرية والجبرية على طرفي نقيض وكلاهما مصيب فيما أثبته دون ما نفاه.

وابن الخطيب ونحوه من الجبرية يزعمون أن العلم بافتقار رجحان فعل العبد على تركه إلى مرجح من غير العبد ضروري؛ لأن الممكن المتساوي الطرفين لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح ما، وكلا القولين صحيح، ولكن دعوى استلزام أحدهما نفي الآخر ليس بصحيح؛ فإن العبد محدث لأفعاله كاسب لها وهذا الإحداث مفتقر إلى محدث فالعبد فاعل صانع محدث، وكونه فاعلاً صانعاً محدثاً بعد أن لم يكن لابد له من فاعل كما قال: {لمن شاء منكم أن يستقيم} (التكوير: ٢٨) فإذا شاء الاستقامة صار مستقيماً ثم قال: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} (التكوير: ٢٩).

فما علم بالاضطرار وما دلت عليه الأدلة السمعية والعقلية كله حق، ولهذا كان لا حول ولا قوة إلا بالله والعبد فقير إلى الله فقراً ذاتياً له في ذاته وصفاته

<<  <  ج: ص:  >  >>