وَقَدْ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَثَرِ التَّرَاخِي، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ رَاجِعٌ إلَى التَّكَلُّمِ بِمَعْنَى الِانْقِطَاعِ الْمُطْلَقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَكَتَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَوْلًا بَعْدَ الْأَوَّلِ. وَقَالَ صَاحِبَاهُ: رَاجِعٌ إلَى الْحُكْمِ مَعَ الْوَصْلِ فِي الْمُتَكَلِّمِ لِمُرَاعَاةِ مَعْنَى الْعَطْفِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُنْفَصِلٌ حَقِيقَةً أَوْ حِسًّا، فَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ كَذَلِكَ فَإِذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٍ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ فِي الْحُكْمِ مُنْقَطِعًا وَقَعَ وَاحِدَةٌ فِي الْحَالِ، وَيُلْغَى الْبَاقِي، لِعَدَمِ الْمَحَلِّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَسَكَتَ، ثُمَّ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَعَلَّقْ الطَّلَاقُ بِالشَّرْطِ فَكَذَا هُنَا، وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُتَّصِلًا حُكْمًا تَعَلَّقَتْ جَمِيعًا بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ وَاحِدَةٌ عَمَلًا بِالتَّرَاخِي. الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لِلتَّرَاخِي فَلَا دَلِيلَ عَلَى مِقْدَارِهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَهُ غَيْرُهُ: الْمُرَادُ بِالتَّرَاخِي الزَّمَانِيُّ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي تَرَاخِي الرُّتْبَةِ أَوْ فِي تَرَاخِي الْأَخْبَارِ كَانَ مَجَازًا. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ أَعْنِي التَّرَاخِيَ فِي الزَّمَانِ وَالرُّتْبَةِ وَالْأَخْبَارِ.
الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ: أَنَّ التَّرَاخِيَ قَدْ يَتَزَايَدُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا قُلْت: جَاءَ زَيْدٌ ثُمَّ جَاءَ عَمْرٌو كَانَ أَدَلَّ عَلَى التَّرَاخِي مِنْ قَامَ زَيْدٌ ثُمَّ عَمْرٌو، فَإِنْ تَغَايَرَ الْفِعْلَانِ فَقُلْت: قَامَ زَيْدٌ ثُمَّ انْطَلَقَ كَانَ كَالثَّانِي، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: ٢٨] فَعَطَفَ أَوَّلًا بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا نُطَفًا فَجَعَلَ فِيهِمْ حَيَاةً عَقِبَ حَالَةِ كَوْنِهِمْ أَمْوَاتًا، ثُمَّ تَرَاخَى حَالَةَ إمَاتَتِهِمْ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِمْ وَآجَالِهِمْ الْمَقْسُومَةِ فَعَطَفَ الْإِمَاتَةَ، ثُمَّ تَرَاخَى الْإِحْيَاءُ الْمُتَعَقِّبُ عَنْ الْإِمَاتَةِ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ فَعَطَفَ {يُحْيِيكُمْ} بِ ثُمَّ، ثُمَّ تَرَاخَى الْإِحْيَاءُ لِلْبَعْثِ عَنْ الْإِمَاتَةِ بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ فَعَطَفَ عَلَيْهِمْ بِ ثُمَّ، ثُمَّ إلَيْهِ الرُّجُوعُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute