قُوَّةَ اللَّفْظِ مُؤْذِنَةٌ بِقُوَّةِ الْمَعْنَى. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَقَضِيَّتُهُ أَنَّ تَرَاخِيَ مَعْنَاهَا يَقَعُ كَتَرَاخِي لَفْظِهَا، وَهُوَ مَعْلُولٌ لَهُ. قَالَ: وَهُوَ عَكْسُ مَا وَجَدْتُهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ عُصْفُورٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَعَرَّضَ لِبَيَانِ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ إنَّ " ثُمَّ " مِثْلُ الْفَاءِ إلَّا أَنَّ فِيهَا مُهْلَةً. قَالَ: فَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي التَّرْتِيبِ إلَّا أَنَّهُ تَرْتِيبٌ فِيهِ مُهْلَةٌ وَتَرَاخٍ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّتْ بِمَعْنًى يَزِيدُ عَلَى مَعْنَى الْفَاءِ خُصَّ لَفْظُهَا بِلَفْظٍ أَزْيَدَ مِنْ لَفْظِ الْفَاءِ وَكَانَتْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَرْفٍ، وَالْفَاءُ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ اللَّفْظِ تَبَعًا لِزِيَادَةِ الْمَعْنَى، وَيَكُونُ اللَّفْظُ مُوَافِقًا لِمَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ أَنَّ الْوَاوَ وَهِيَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْوَاوُ وَالْمِيمُ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَخْرَجِ؛ إذْ الْفَاءُ مِنْ بَاطِنِ الشَّفَةِ وَالْوَاوُ وَالْمِيمُ مِنْ نَفْسِ الشَّفَةِ، فَلِذَلِكَ جُعِلَتْ هَذِهِ الْحُرُوفُ الثَّلَاثَةُ تَجْمَعُ مَا بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَخُصَّتْ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ غَيْرِهَا. وَلَمَّا اخْتَصَّتْ " ثُمَّ " بِمَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الْفَاءِ اخْتَصَّتْ بِالثَّاءِ الْمُقَارِبَةِ لِمَخْرَجِ الْفَاءِ لِتَدُلَّ عَلَى مَعْنًى ثَالِثٍ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي اقْتِضَائِهَا التَّرَاخِيَ.
وَكَلَامُ ابْنِ الْخَشَّابِ يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالْمُفْرَدَاتِ وَأَنَّهُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ كَمَا سَبَقَ مِثْلُهُ فِي التَّرْتِيبِ. قَالَ: وَقَدْ يَتَجَرَّدُ عَنْ التَّرَاخِي إذَا كُرِّرَتْ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ - ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: ١٧ - ١٨] وَالْمَعْطُوفُ هُنَا هُوَ لَفْظُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ: {كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ - ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: ٣ - ٤] وَالْمَعْطُوفَاتُ كُلُّهَا جُمَلٌ فِيهَا مَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: ٣] فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: التَّرَاخِي ظَاهِرٌ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَأَخُّرِ الْعَوْدِ عَنْ الظِّهَارِ بِفَصْلٍ، وَهُوَ زَمَنُ إمْكَانِ الطَّلَاقِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute