{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: ١١٠] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: ٧] فَإِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا " إنَّمَا " لَيْسَتْ لِلْعُمُومِ بَلْ تَخْتَصُّ كَوْنَهَا لَعِبًا وَلَهْوًا بِمَنْ لَا يُرِيدُ بِعَمَلِهِ فِيهَا الْآخِرَةَ وَالتَّزَوُّدَ بِهَا، وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْحَصِرُ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَالنِّذَارَةِ بَلْ لَهُ أَوْصَافٌ أُخْرَى جَلِيلَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ وَالنِّذَارَةِ، لَكِنْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صِفَةٍ تَقْتَضِي الْعِلْمَ بِالْغَيْبِ، أَوْ أَنَّهَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ» ، وَفِي {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: ١١٠] فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يُفْهَمُ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ الْإِيمَانِ قَهْرًا لِسَبْقِ قَوْله تَعَالَى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: ٥] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت: ٦] أَيْ: وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا أَقْدِرُ عَلَى إجْبَارِكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ. وَكَذَلِكَ أَمْرُ النِّذَارَةِ لَا يَنْحَصِرُ فِيهَا {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: ٤٥] إذَا عَرَفَتْ هَذَا فَإِنْ دَلَّتْ الْقَرَائِنُ وَالسِّيَاقُ عَلَى التَّخْصِيصِ فَاحْمِلْهُ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ " إنَّمَا " عَلَى هَذَا حَمَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ (إنَّمَا الرِّبَا) عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى نَفَى رِبَا الْفَضْلِ، وَقِيلَ: إنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ، وَحَمَلَ غَيْرُهُ «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُوجِبْ الْغُسْلَ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَمَنْ خَالَفَ فِي الْأَمْرَيْنِ فَبِدَلِيلٍ خَارِجِيٍّ.
الرَّابِعُ: زَعَمَ النَّحْوِيُّونَ أَنَّ الْأَخِيرَ هُوَ الْمَحْصُورُ، فَإِذَا قُلْت: إنَّمَا زَيْدٌ قَائِمٌ، فَالْقَائِمُ هُوَ الْمَحْصُورُ، وَإِذَا قُلْت: إنَّمَا الْمَالُ لَك، فَالْمَحْصُورُ أَنْتَ أَيْ: لَا غَيْرُك، وَإِذَا قُلْت: إنَّمَا لَك الْمَالُ، فَالْمَحْصُورُ الْمَالُ أَيْ: لَا غَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» لَا يَحْسُنُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ النِّيَّةِ فِي كُلِّ عَمَلٍ؛ إذْ الْمَحْصُورُ النِّيَّةُ لَا الْعَمَلُ، وَلَكِنْ إجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ. وَأَجْمَعَ النُّحَاةُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أُرِيدَ الْحَصْرُ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ مَعَ " إنَّمَا " يَجِبُ تَأْخِيرُهُ وَتَقْدِيمُ الْآخَرِ، فَتَقُولُ: إنَّمَا ضَرَبَ عَمْرٌو هِنْدًا إذَا أَرَدْت الْحَصْرَ فِي الْمَفْعُولِ، وَإِنَّمَا ضَرَبَ هِنْدًا عَمْرٌو إذَا أَرَدْت الْحَصْرَ فِي الْفَاعِلِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إذَا كَانَ مَعَ " مَا " وَ " إلَّا " عَلَى ثَلَاثَةٍ مَذَاهِبَ: فَذَهَبَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْجُزُولِيُّ وَالشَّلُوبِينَ إلَى أَنَّهُ كَذَلِكَ فِي " إنَّمَا " إنْ أُرِيدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute