أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ مَدْلُولُهُ عَمَّا كَانَ لِوُرُودِهِ ابْتِدَاءً وَصَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي " كِتَابِهِ " بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحَظْرِ بَيْنَ الْعَقْلِيِّ وَالشَّرْعِيِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ": لِلْمَسْأَلَةِ حَالَتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُبَاحًا فِي أَصْلِهِ إمَّا بِحُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي مُجَوِّزَاتِ الْعُقُولِ مُبَاحٌ، أَوْ بِتَوَقُّفٍ مِنْ الشَّرْعِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَرِدُ حَظْرٌ مُعَلَّقٌ بِغَايَةٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ عِلَّةٍ، فَإِذَا وَرَدَ " افْعَلْ " بَعْدَ زَوَالِ مَا عَلَّقَ الْحَظْرَ بِهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ وَيَرْفَعُ الْحَظْرَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَرِدَ حَظْرٌ مُبْتَدَأٌ غَيْرُ مُعَلَّلٍ بَعْلَةٍ عَارِضَةٍ، وَلَا مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ، وَلَا غَايَةٍ ثُمَّ يَرِدَ بَعْدَهُ صِيغَةُ الْأَمْرِ فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ، وَمِثْلُهُ بِالْكِتَابَةِ. قَالَ: وَيَجُوزُ رُجُوعُهَا إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْكِتَابَةِ إنَّمَا كَانَ لِدُخُولِهَا فِي الْغَرَرِ، وَحَظْرُ الْغَرَرِ مُبْتَدَأٌ.
الثَّانِي: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَظْرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ مُحَرَّمًا فَقَطْ بَلْ الْمُرَادُ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّهِ التَّحْرِيمُ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَثَّلَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: ٣٣] وَجَوَازُ الْكِتَابَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْإِجَارَةُ وَالْمُسَاقَاةُ. الثَّالِثُ: قَالَ الْمَازِرِيُّ: تَرْجَمَةُ الْمَسْأَلَةِ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُتَنَاقِضِ؛ إذْ الْمُبَاحُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تَقْتَضِي كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ، وَالصَّوَابُ: أَنْ يَقُولَ: " افْعَلْ " إذَا وَرَدَ بَعْدَ الْحَظْرِ. وَقَالَ عَبْدُ الْجَلِيلِ الرَّبَعِيُّ فِي شَرْحِ اللَّامِعِ ": هَذِهِ الْعِبَارَةُ رَغِبَ عَنْهَا الْقَاضِي، وَقَالَ: الْأَوْلَى فِيهَا أَنْ يُقَالَ: " افْعَلْ " بَعْدَ الْحَظْرِ؛ لِأَنَّ " افْعَلْ " يَكُونُ أَمْرًا تَارَةً وَغَيْرَ أَمْرٍ، وَالْمُبَاحُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مَأْذُونٌ فِيهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute