النَّهْيَ عَنْ غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ عَبَثٌ؛ إذْ يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ لِلْأَعْمَى: لَا تُبْصِرْ، وَلِلْأَبْكَمِ: لَا تَتَكَلَّمْ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُمْتَنِعِ حِسًّا لَا شَرْعًا، وَإِلَّا لَانْتَقَضَ بِجَمِيعِ الْمَنَاهِي الْفَاسِدَةِ. هَكَذَا أَطْلَقَ الْخِلَافَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمَا.
وَالصَّوَابُ: أَنَّهُمَا إنَّمَا قَالَا ذَلِكَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِوَصْفِهِ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لِعَيْنِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا. قَالَ الْأَصْفَهَانِيُّ: وَالْقَائِلُ بِهَذَا الْمَذْهَبِ لَا يُمْكِنُهُ دَعْوَى أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ دَلَالَةَ مُطَابَقَةٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ، وَشَرْطُهَا اللُّزُومُ وَهُوَ مَفْقُودٌ هَاهُنَا، وَقِيلَ: إنْ أَرَادُوا بِالصِّحَّةِ الْعَقْلِيَّةَ، وَهِيَ الْإِمْكَانُ، أَيْ: كَوْنُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لَا مُمْتَنِعٌ فَصَحِيحٌ، وَإِنْ أَرَادُوا الصِّحَّةَ الشَّرْعِيَّةَ بِالْمُسْتَفَادَةِ مِنْ الشَّرْعِ وَهِيَ تَرَتُّبُ آثَارِ الشَّيْءِ شَرْعًا عَلَيْهِ فَذَلِكَ تَنَاقُضٌ؛ إذْ يَصِيرُ مَعْنَاهُ: النَّهْيَ شَرْعًا يَقْتَضِي صِحَّةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ شَرْعًا، وَهُوَ مُحَالٌ؛ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ صِحَّةُ كُلِّ مَا نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ، وَقَدْ أَبْطَلُوا هُمْ مِنْهُ أَشْيَاءَ كَبَيْعِ الْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ وَنَحْوِهِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ لُغَةً وَشَرْعًا يَقْتَضِي إعْدَامَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَيْفَ تُرَتَّبُ آثَارُهُ مَعَ إعْدَامِهِ؟ وَكَذَلِكَ إنَّ الصِّحَّةَ إمَّا عَقْلِيَّةٌ، وَهِيَ إمْكَانُ الشَّيْءِ وَقَبُولُهُ لِلْعَدَمِ وَالْوُجُودِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ كَإِمْكَانِ الْعَالَمِ وَالْأَجْسَامِ وَالْأَعْرَاضِ، أَوْ عَادِيَّةٌ كَالْمَشْيِ فِي الْجِهَاتِ أَمَامًا وَيَمِينًا وَشِمَالًا، أَوْ شَرْعِيَّةٌ وَهِيَ الْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ فَيَتَنَاوَلُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إلَّا التَّحْرِيمَ؛ إذْ لَا إذْنَ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ دَلِيلُ الْحَنَفِيَّةِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الصِّحَّةَ الْعَقْلِيَّةَ أَوْ الْعَادِيَّةَ، وَذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute