غَيْرَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ، بَلْ رَافِعٌ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ: الْحُكْمُ أَوْ الْإِثْمُ، أَوْ هُمَا جَمِيعًا، فَالشَّافِعِيُّ أَثْبَتَ لِلْمُقْتَضِي عُمُومًا، وَعِنْدَنَا لَا عُمُومَ لَهُ، لِأَنَّ دَلَالَتَهُ ضَرُورِيَّةٌ لِلْحَاجَةِ، فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يَصِحُّ الْمَذْكُورُ بِهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُقْتَضَى كَالْمَنْصُوصِ فِي احْتِمَالِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ. وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ أَنَّ الْمُقْتَضَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ النَّصِّ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَكَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ مَوْجُودًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَمَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ فَرَّعَ السَّرَخْسِيُّ عَلَى الْخِلَافِ الْمَسْأَلَةَ السَّابِقَةَ، وَهِيَ مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَكَلْتُ فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَوَى طَعَامًا، قَالَ: فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ لِأَنَّ الْأَكْلَ يَقْتَضِي مَأْكُولًا، وَذَلِكَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ أَكَلْتُ طَعَامًا، فَلَمَّا كَانَ لِلْمُقْتَضَى عُمُومٌ عِنْدَهُ عُمِلَ بِنِيَّةِ التَّخْصِيصِ، وَعِنْدَنَا لَا يُعْمَلُ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيمَا لَا عُمُومَ لَهُ لَاغِيَةٌ. انْتَهَى. وَجَعَلَ غَيْرُهُ الْحَدِيثَ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ لَا مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْحُكْمِ وَالْإِثْمِ مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْحَذْفِ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنْ الْمَنْطُوقِ إلَى الْمَحْذُوفِ، وَفِي الْمُقْتَضَى لَا يَنْتَقِلُ مِنْ الْمُقْتَضَى شَيْءٌ، بَلْ يُقَدَّرُ قَبْلَهُ مَا يُصَحِّحُهُ، قَالُوا: وَنَظِيرُهُ الْمَيْتَةُ أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الشِّبَعِ، بِخِلَافِ الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّهُ عَامِلٌ بِنَفْسِهِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُذَكَّى يَعُمُّ سَائِرَ جِهَاتِ الِانْتِفَاعِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute