وَالشَّكُّ فِي الْمَنْفِيِّ. قُلْت: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْوِيَهُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مُرَادًا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لَا يَكُونَ؟ وَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَوْ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ بَيَانًا لَأَدَّى إلَى النَّسْخِ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ، فَيُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى: قَالَ: وَمَسَائِلُ الشَّافِعِيِّ كُلُّهَا تُخَرَّجُ عَلَى الْبَيَانِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى التَّعَارُضِ، لِأَنَّ التَّعَارُضَ إنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الْمِثْلَيْنِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى، لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُسْتَقِلٌّ، وَالْمُسْتَثْنَى نَاقِصٌ، وَلِهَذَا لَا يُبْتَدَأُ بِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَى الْإِخْرَاجِ قَوْله تَعَالَى فِي حَقِّ نُوحٍ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: ١٤] إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يُخَرِّجُ الْخَمْسِينَ مِنْ الْأَلْفِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ بِلُبْثِهِ الْأَلْفَ بِكَمَالِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ صَالِحًا لِدُخُولِ الْخَمْسِينَ تَحْتَ الْأَلْفِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ مِنْ صَلَاحِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ مُرِيدٌ لِلْأَلْفِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ مَا لَبِثَ الْخَمْسِينَ، فَكَيْفَ يُرِيدُهَا؟
وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ: وَضْعُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُخَرِّجَ مَا لَوْلَاهُ لَانْتَظَمَهُ، وَذَكَرَ الْإِخْرَاجَ بِاعْتِبَارِ الصَّلَاحِيَّةِ فِي اللَّفْظِ، وَبِهَذَا كُلِّهِ تَبْطُلُ دَعْوَى الْقَرَافِيِّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا إخْرَاجَ فِيهِ أَصْلًا، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ حَقِيقَةٌ فِيمَنْ اتَّصَفَ بِالدُّخُولِ، وَلَا يُقَالُ: خَرَجَ زَيْدٌ مِنْ الدَّارِ إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَهَا إلَّا مَجَازًا وَقَدْ بَيَّنَّا الْمُرَادَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الصَّلَاحِيَّةِ لِلدُّخُولِ، لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ كَالتَّخْصِيصِ بِالْمُقَارِنِ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا وَرَاءَ الْخُصُوصِ مِنْ الْأَصْلِ، وَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَخْصُوصَ. وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْمُحَارِبِينَ، فَلَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْمُحَارِبِينَ مُرَادًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الِابْتِدَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute