ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ مَالَ إلَى مَا ذَكَرُوهُ طَوَائِفُ مِنْ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ نِظَامُ الْمَعِيشَةِ وَعِمَارَةُ الدُّنْيَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الِاعْتِدَالِ، وَحُسْنِ النِّظَامِ مِنْ الَّذِي يَتَضَمَّنُ خَرَابَ الدُّنْيَا، وَهَذَا الْمَذْهَبُ لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ قَطْعًا. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الْعَقْلُ يَسْتَقِلُّ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الِاتِّبَاعَ تَمَحَّضَ نَفْعًا لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ الِاتِّبَاعِ مَحْضُ ضَرَرٍ. وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ عَلَى يَدِهِ لِيُصَدِّقَهُ. وَهَذَا الْعِلْمُ يَحْصُلُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ الْقَبِيحَ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَدِّرْ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ مَعْرِفَةُ الصِّدْقِ مِنْ جَائِزَاتِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ.
وَاَلَّذِي يُعْلَمُ بِالشَّرْعِ أَنَّهُ مَصْلَحَةٌ وَنَفْعٌ مَحْضٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: حُكْمٌ، وَمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ عِلَّةٍ وَتَسَبُّبٍ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ وَإِنْ أَطْلَقُوا أَقْوَالَهُمْ بِأَنَّ الْعَقْلَ يُحَسِّنُ وَيُقَبِّحُ لَمْ يُرِيدُوا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ، فَإِنَّ الْعَقْلَ عِبَارَةٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ، وَالْعِلْمُ لَا يُوجِبُ الْمَعْلُومَ إيجَابَ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ، وَإِنَّمَا عَنَوْا بِهِ أَنَّ الْعَقْلَ يَكْشِفُ عَنْ حُسْنِ الْحَسَنِ وَقُبْحِ الْقَبِيحِ. فَعِنْدَ ذَلِكَ انْقَسَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْحَسَنَ حَسَنٌ لِذَاتِهِ وَكَذَا الْقَبِيحُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ إلَى أَنْ قَبَّحَ الصِّفَةَ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُنَا قَالُوا: إنَّ الْحَسَنَ مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ، وَالْقَبِيحَ مَا قَبَّحَهُ، وَمَا عَنَوْا بِهِ الْإِيجَابَ، وَإِنَّمَا عَنَوْا بِهِ أَنَّ الْحَسَنَ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ: " لَا تَفْعَلْ ".
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: عِنْدَنَا لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ لَكِنْ نَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ فِي أَنْفُسِهَا دَالَّةٌ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا، وَمُقْتَضِيَةٌ أَحْكَامَهَا إلَّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute