فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْحَمْلُ عَلَى النَّسْخِ، فَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَوْ التَّعَارُضُ فِيمَا تَنَافَيَا فِيهِ، وَجَعَلَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَبْنِيًّا عَلَى تَأْخِيرِ الْبَيَانِ. قَالَ: فَمَنْ لَمْ يُجَوِّزْ تَأْخِيرَهُ عَنْ مَوْرِدِ اللَّفْظِ، جَعَلَهُ نَسْخًا لِلْخَاصِّ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ لَا يُعْلَمَ تَارِيخُهُمَا، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الْخَاصَّ مِنْهُمَا يَخُصُّ الْعَامَّ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَنَابِلَةِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْبَاجِيُّ عَنْ عَامَّةِ أَصْحَابِهِمْ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ إلَى التَّوَقُّفِ إلَى ظُهُورِ التَّارِيخِ، وَإِلَى مَا يُرَجِّحُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا. وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَالدَّقَّاقِ أَيْضًا.
وَكُلٌّ مِنْ الْإِمَامَيْنِ ذَهَبَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ أَصْلُهُ، أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَلِأَنَّهُ بَنَى الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ مُطْلَقًا مُتَقَدِّمًا وَمُتَأَخِّرًا وَمُقَارِنًا إذَا عُلِمَ التَّارِيخُ، لَكِنْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَكُونُ الْبِنَاءُ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ، وَفِي بَعْضِهَا عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ، وَحَالَةُ الْجَهْلِ لَا تَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُبْنَى الْعَامُّ عَلَى الْخَاصِّ، وَالْجَهْلُ بِكَوْنِ الْبِنَاءِ عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ أَوْ التَّخْصِيصِ لَا مَحْذُورَ فِيهِ، لَا فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَلَا فِي حَقِّ الِاعْتِقَادِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَلِأَنَّهُ يَنْسَخُ الْخَاصَّ بِالْعَامِّ إذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ، وَيُخَصِّصُ الْعَامَّ أَوْ يَنْسَخُهُ بِهِ إذَا كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَعِنْدَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ دَارَ الْأَمْرُ فِي الْخَاصِّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا أَوْ مُخَصِّصًا أَوْ نَاسِخًا، فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَصْحَابَهُ لَمَّا اعْتَقَدُوا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّوَقُّفَ إلَى ظُهُورِ الْمُرَجِّحِ ذَكَرُوا فِي التَّرْجِيحِ فِي اسْتِعْمَالِهِمَا أَوْ اسْتِعْمَالِ أَحَدِهَا وُجُوهًا، فَنَقَلَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّهُ قَسَّمَهُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَعْمَلَ النَّاسُ بِهِمَا جَمِيعًا، فَيُسْتَعْمَلَانِ، وَيُرَتَّبُ الْعَامُّ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute