وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِي عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ: وَأَوْجَبُوا أَنْ لَا تَرِدَ لَفْظَةٌ إلَّا وَيَقْتَرِنُ بِهَا بَيَانُهَا، إذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا. اهـ. وَظَاهِرُ هَذَا التَّقْيِيدِ أَنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ عِنْدَ الِاسْتِقْلَالِ. وَفِيهِ نَظَرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ نَقْلَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ الْمَنْعَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ: هَذَا مَذْهَبٌ كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ الصَّيْرَفِيُّ قَدِيمًا، فَنَزَلَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ ضَيْفًا، فَنَاظَرَهُ فِي هَذَا، وَاسْتَنْزَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَقَالَةِ إلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْمُتَشَيِّعَةِ، وَلِهَذَا نَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَسْأَلَةَ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ مُوَافَقَةً لِلْجُمْهُورِ.
قُلْتُ: وَقَدْ رَاجَعْت كِتَابَهُ الْمُسَمَّى " بِالدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ " وَهُوَ مُجَلَّدٌ كَبِيرٌ، فَرَأَيْته فَصَّلَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ فَيَجُوزُ، وَتَأْخِيرِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَنَحْوِهِ فَيَمْتَنِعُ. وَهَا أَنَا أَسُوقُ عِبَارَتَهُ لِتَقِفَ عَلَى صَوَابِ قَوْلِهِ. قَالَ مَا نَصُّهُ: الْقَوْلُ فِي الْخِطَابِ الْمُجْمَلِ الَّذِي لَا يُعْقَلُ مِنْ ظَاهِرِهِ مُرَادُهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: خِطَابٌ لَا يُعْقَلُ مِنْ نَفْسِ اللَّفْظِ بَيَانُهُ فَغَيْرُ لَازِمٍ، حَتَّى يَقَعَ الْبَيَانُ، كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: ٤٣] لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهَا مِنْ ظَاهِرِ الِاسْمِ، وَحِينَئِذٍ فَوَقْتُ التَّكْلِيفِ وَقْتُ الْبَيَانِ، وَهَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ إلَى وَقْتِ الْإِلْزَامِ، وَيَكُونَ فَائِدَةُ الْخِطَابِ الْإِعْلَامَ بِأَنَّهُ أَوْجَبَ الصَّلَاةَ الَّتِي سَيُبَيِّنُهَا يَلْزَمُهُمْ عِنْدَ الْبَيَانِ. قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا تَأْخِيرُ الْبَيَانِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَا يَلْزَمُهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ حِينَئِذٍ عَلَى اعْتِقَادِ خِلَافِ الْمُرَادِ.
ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْخِطَابُ الَّذِي تُدْرَكُ حَقِيقَتُهُ وَحَدُّهُ مِنْ ظَاهِرِ الِاسْمِ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ أَكْثَرَ مِنْ لَفْظِهِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى إرَادَةِ بَعْضِهِ أَوْ فِعْلِهِ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ، لِأَنَّهُ إنْ أَخَّرَهُ كَانَ الْكَلَامُ مُطْلَقًا، وَمُرَادُهُ الشَّرْطَ، فَيُوجِبُ اعْتِقَادَهُ عُمُومًا أَوْ اقْتِضَاءً أَمْرُهُ مُبَادِرًا، فَيَكُونُ قَدْ أَمَرَ بِمَا يُوجِبُ ظَاهِرُهُ خِلَافَ مُرَادِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، لِمَا فِيهِ مِنْ اللَّبْسِ، ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلَائِلَ عَلَى الْمَنْعِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute