وَهُنَا تَنْبِيهٌ آخَرُ يَتَعَلَّقُ بِمَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمَاهِيرَ أَطْلَقُوا النَّقْلَ عَنْهُمْ بِالْمَنْعِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ اسْتَثْنَوْا النَّسْخَ، وَجَوَّزُوا تَأْخِيرَ بَيَانِهِ. وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو الْحُسَيْنِ عَنْهُمْ فِي " الْمُعْتَمَدِ ". وَلِهَذَا ادَّعَى الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى "، وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ "، وَالسَّمَرْقَنْدِيّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي " الْمِيزَانِ " الِاتِّفَاقَ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ النَّسْخِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: بَلْ يَجِبُ تَأْخِيرُهُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّ النَّسْخَ عِنْدَهُمْ بَيَانٌ لِوَقْتِ الْعِبَادَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى تَكْرَارِ الْأَفْعَالِ عَلَى الدَّوَامِ، ثُمَّ يُنْسَخُ وَيُقْطَعُ الْحُكْمُ بَعْدَ حُصُولِ الِاعْتِقَادِ بِلُزُومِ الْفِعْلِ عَلَى الدَّوَامِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَرِدَ نَسْخٌ. وَالْغَزَالِيُّ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ إمَامِهِ. وَقَدْ نَاقَضَتْ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ إذْ النَّسْخُ عِنْدَهُمْ بَيَانُ مُدَّةِ التَّكْلِيفِ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْبَيَانُ مُقْتَرِنًا بِمَوْرِدِ الْخِطَابِ الْأَوَّلِ. قَالَ: وَلَيْسَ لَهُمْ عَنْ هَذَا جَوَابٌ. وَالْإِمَامُ أَخَذَهُ مِنْ الْقَاضِي، فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ أَصْحَابُنَا أَنْ قَالُوا: النَّسْخُ تَخْصِيصٌ فِي الزَّمَانِ، وَالتَّخْصِيصُ فِي الْأَعْيَانِ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَرِدَ اللَّفْظَةُ مُطْلَقَةً فِي الْأَزْمَانِ وَالْمُرَادُ بَعْضُهَا، فَإِنْ لَمْ يَبْعُدْ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ لَمْ يَبْعُدْ فِي الْأَعْيَانِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا يَسْتَقِيمُ مِنَّا الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ، فَإِنَّ النَّسْخَ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ فِي الْأَزْمَانِ عِنْدِي وَعِنْدَ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِي، وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعٌ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصَّيْرَفِيِّ فِيمَا سُقْنَاهُ، وَكَذَا حَكَاهُ الْقَاضِيَانِ: أَبُو الطَّيِّبِ وَعَبْدُ الْوَهَّابِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ " عَنْ الصَّيْرَفِيِّ وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَرُوذِيُّ، وَكَذَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا خِلَافَ بَيْنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute